لقطات تاريخية من ذكرى الصلاة الأولى في كنيسة آيا صوفيا

خميس, 07/22/2021 - 18:08

عاصر السلطان محمد الفاتح أربعة من المؤرخين الكبار وهم: ابن تغري بردي صاحب النجوم الزاهرة، والسخاوي صاحب الضوء اللامع، والسيوطي صاحب حسن المحاضرة ونظم العقيان، وابن إياس صاحب حوادث الدهور، وتلاهم عدد من المؤرخين العرب الذين وثقوا ابتهاج الشعوب المسلمة بفتح القسطنطينية وشيوع الاحتفالات بهذا النصر العظيم.
وكانت تدوينات هؤلاء المؤرخين المسلمين العرب ذات نمط افتخاريّ يستعلي بانتصارات السلطان الفاتح وحكايات حروبه، وبدا واضحاً أن فتح المدنية كان أكثر ما بهرهم، ولكنهم كانوا جميعاً يعانون من فقر المعلومات والمعطيات، وهو ما اعترف به السخاوي في الضوء اللامع بوضوح؛ وكان هذا هو السبب في ضعف عناية ابن حجر العسقلاني في كتابه الدرر الكامنة بترجمة أعيان المائة الثامنة بترجمة ملوك الروم "أي العثمانيين" في القرن الثامن الهجري؛ وهو ما انتقده الشوكاني في كتابه البدر الطالع على السخاوي أيضاً الذي لم يجد عنده قدراً كافياً من العناية بترجمة سلاطين العثمانيين في القرن التاسع الهجري؛ ولعل رسالة السلطان الفاتح الإنشائية إلى سلطان مصر المملوكي وما رافق زيارة هذا الوفد من أخبار هي المادة الوحيدة التي اعتمدوها في تفاصيل هذا الخبر.
وكان أول مصدر مشهور موثوق يؤرخ للعثمانيين هو كتاب الشقائق النعمانية لطاش كبري زاده الذي احتفى به المؤرخون العرب ونقلوا منه .
ومما ينبغي أن نوثق له في افتتاح هذه العاصمة الدينية والسياسية العظيمة أن ثمة تشابهاً في ظروف فتحها مع فتح القدس العاصمة الدينية الروحية للدولة البيزنطية القديمة ، فهذه المدينة المقدسة تعرّضت لحصار عسكري محكم على مدار ثلاث سنوات من قِبل أجناد الشام الخمسة التي تولّى قيادة خطة حصارها العامة القائد العام أبو عبيدة ابن الجراح، وتولّى تنفيذ الحصار عدد من القيادات العليا والوسيطة أشهرهم عمرو بن العاص قائد جند فلسطين، وعُزلت المدينة تماماً عن محيطها وطرق إمدادها حتى اضطر حاكمها الديني الثمانيني العجوز صفرونيوس أن يعلن يأسه من حدوث الإمداد الإمبراطوري من هرقل عظيم بيزنطة، وعرَضَ تسليم المدينة للخليفة عمر بن الخطاب في واحدة من أعظم مشاهد الاستلام والتسلّم في التاريخ العسكري والحضاري للأمم.
وقصة فتح القسطنطينية التي ظل المسلمون لنحو ثمانية قرون يجتهدون في فتحها ويجرّدون لها الكتائب والألوية والفيالق، شبيهة بهذا الفتح ولكن مع طول المدة وعظم الكلفة، لشدة حصانة هذه المدينة وعظم خبرتها في مواجهة الحصار؛ فقد استولى العثمانيون على معظم محيط هذه المدينة، وضربوا حلفاءها الأقربين في وسط أوروبا وشرقها وجنوبها ، وأخضعوا ملوكها، ودخلوا معهم في معارك كر وفرّ صعبة قاسية؛ وكان لمعركة كوسوفو الثانية التي قادها السلطان مراد الثاني والد السلطان محمد الفاتح الأثر الأكبر في تمهيد الطريق أمام ولده ليواصل مسيرة والده، وينجز الفتح الكبير على يديه؛ وهو الذي سار في الخطة العسكرية نفسها بعزل المدينة عن محيطها، وقطع جميع الطرق الواصلة إليها.
ويتذكّر المؤرخون الرؤية الاستراتيجية التي أقرها المجلس العسكري للخليفة الراشد عثمان بن عفان والتي وضعت هدفها الأكبر في فتح القسطنطينية من ناحية أوروبا لاستحالة فتحها من ناحية الأناضول أو البحر، فيروى عن عثمان رضي الله عنه أنه كتب إلى من انتدب إلى غزو الأندلس: أما بعد، فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس، وإنكم إن فتحتموها كنتم شركاء من يفتحها في الأجر.
ويتحوّل الإدراك الشعوري نحو هذه المدينة بافتتاحها من مربع العداوة إلى مربع الأمن والسلام والعزّة والانتماء لهذه الأمة، ولهذا نجدهم يوثقون لسنة افتتاحها في العام الهجري 857 هـ على طريقة حساب الجُمّل الشهيرة في ذلك الزمان بجملة مقتطعة من آية في سورة سبأ "بلدة طيبة".
ويسجّل لنا التاريخ أن أحد كبار القضاة والعلماء في مصر في حاشية السلطان المملوكي الظاهر جقمق اضطرته مكايدات القرناء وظلم السلطة إلى ترك العمل مع هذا السلطان، والعزوف عن أذى الحاشية السلطانية المملوكية، فاختار الانحياز إلى السلطان مراد الثاني في عاصمته أدرنة في شرق القسطنطينية، وشهد معه انتصاراته ومعاركه الممهدة لفتح المدينة، ولشهرة الإمام شهاب الدين أحمد بن إسماعيل الكوراني الحنفي بالتربية وتقويم السلوك وغزارة العلم وقوة الحجة، فقد عهد إليه السلطان مراد بتأديب ولده الأمير محمد خان "الفاتح" وهو في نحو الثانية عشرة من عمره، أثناء توليه إمارة "مغنيسيا" كما هي العادة في تولية أبناء السلطان المقاطعات الصغيرة بغرض التدريب على الحكم والإدارة، وكان لشهاب الدين الكوراني الأثر الكبير في صقل شخصية محمد خان، كما كان للشيخ آق شمس الدين المولود في دمشق الأثر الأكبر عليه،  وتولى الكوراني قضاء العسكر والإفتاء، وشهد الكوراني ميلاد الحلم بفتح القسطنطينية مع السلطان الشاب محمد الفاتح، ونظم فيه قصائد المديح ، ومنها قصيدته التي افتتحها بقوله:   
لَمْياء إذ سَفَرتْ عن ثغرها الشَّنِبِ . . . سارت بلبّي وأسرَى بعده أدبي
فهذه حالتي بالعين تنظرها: . . . القلب في صفدٍ والعين في حلب
ومنها :
فسرت مختفياً والدهر يتبعني . . . عساه ينصفني من ظلمها جلبي
سلطانُنا الباهر الباهي له شرفٌ . . . يسمو على البدر والجوزاء والشُّهب
محمد أنت فخر القوم قاطبةٍ . . . سميت بدر السما من أنجم العرب
ويذكر التاريخ أن آق شمس الدين والكوراني قد استشارهما السلطان الفاتح في أمر الاستمرار في حصار القسطنطينية بعد أيام طويلة قاسية في حصارها دون ظهور علامة قوية على سقوطها، فأشار عليه الرجلان بالأخذ برأي قائد الأسطول العثمانيّ زغنوس باشا الذي دعاه إلى استمرار العملية وعدم الاستماع لتقديرات خليل باشا المتخوّفة من التبعات السياسية الدولية لاقتحام المدينة؛ ودعا الشيخان للفاتح، وبشّراه بأن العناية الصمدية ستكون معه ليحقق النصر والظفر، مما زاد من حماسة المقاتلين واستبشارهم.
المشاهد الأخيرة لكنيسة آيا صوفيا كانت حافلة بالأحداث الغريبة ، فقد هجرها القسطنطينيون وتركوها خاوية بعد أن دخلها مندوب عدوّهم البابا في روما، وهو الكاردينال إيسيدور في 12 ديسمبر من السنة الفائتة، واعتبروا دخوله إليها تدنيساً، ولكن الكنيسة بعد أشهر، وتحديداً في شهر مايو من السنة التي تلي هذا "التدنيس" اكتظت بجموع المسيحيين الروم واللاتين في مشهد صلاة أخير، ونهض الإمبراطور قسطنطين فيها دامعاً معتذراً معلناً صموده حتى آخر لحظة، وأعلن الرهبان والقساوسة أن الرب قد استجاب دعاءهم، وأنه سينصرهم على جيش العثمانيين، وغرّتهم السحب والأمطار الكثيفة التي ما لبثت أن انقشعت لتتيح لمدافع العثمانيين أن تدكّ ما تبقى من الأسوار، وكان الفاتح على متن حصانه "جامبولات" يراقب التطورات المثيرة، ويسمع آخر دقّات كنيسة آيا صوفيا المفزوعة التي لا تكفّ عن الصراخ، وكأن الفاتح قد قرر حينها أن يجعل أصوات أجراس هذه الكنيسة تكبيرات تسبّح باسم الله العظيم الناصر، ثم اقتحم بحصانه المدينة مع جنوده الذين دخلوها من كل باب بأعلامهم وتكبيرهم، واقترب السلطان الظافر من أبواب الكنيسة  التي تهمهم فيها بعض الصلوات الخائفة فوجدها مغلقة، ففتح له أحد الرهبان بابها الكبير، ثم تركوها جميعاً بيد القائد الفاتح الجديد الذي أبَى أن يغيّر شيئاً من أيقوناتها التي تمثّل معتقدات الكنيسة التقليدية فيها، وأمر الفاتح بالأذان فيها، وأن تكون أول جمعة جامعة في المدينة المفتوحة فيها، فرفعوا الصلبان وتماثيل القديسين، وغطّى المهندسون زخارف الفسيفساء بالكلس ولم ينزعوها، وأُنشِئ المحراب، وأقيم المنبر، وشُيّدت المئذنة ...
وبعث السلطان الفاتح رسله بالبشارة إلى مصر والشام والحجاز وفارس، وابتهج المسلمون في كل مكان، وتهللت المساجد، وأقيمت صلوات الشكر، وارتفعت الرايات في كل مكان ... وتحدث الجميع عن صدق النبوءة المحمدية وشهادة رسول الله لفاتحيها؛ حتى إن سلطان مصر المملوكي إينال أمر بتزيين شوارع القاهرة وحوانيتها لما تسلّم رسالة الفاتح ومعها اثنان من الأسرى وهدايا السلطان الكبيرة؛ وكانت رسالة السلطان الفاتح من إنشاء شيخه الذي يعرف مصر جيداً وهو المولى شهاب الدين الكوراني، في رسالة طويلة مليئة بالفخر والنشوة وتمكين الصلاة في الكنيسة الكبرى؛ وهي الرسالة التي حوّلها سلطان مصر إلى شريف مكة ليعلنها للحجاج من كل فجّ عميق.

*الدكتور أسامة الأشقر