فاعتبروا يا أولي الأبصار

أحد, 07/11/2021 - 10:51
الدكتور يحيى مختار بيلو محمد

إن البــــلاء سُنَّة الله الجارية في خلقه؛ فهناك من يُبتلى بنقمة أو مرض أو ضيق في الرزق أو حتى بنعمة، فقد قضى الله عزَّ وجلَّ على كل إنسان نصيبه من البــــلاء قال عز وجل : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}. إذن البلاء لابد منه وهو صنفان : ابتلاء بالخير وابتلاء بالشر. ونوقن ايقانا لازما أن الله يبتلي عبده وهو يعلم قدرته على التحمل. ولكن هذا التحمل قد يكون خاملا يحتاج لإيقاظه من سباته، فقد قال صلى الله عليه وسلم : " من يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر"، إذن لابد من التصبر على البلاء حتى يكون صفة ملازمة للفرد، وهو في كل ذلك مأجور على تطويع نفسه على الرضا بالقضاء والصبر والاحتساب، فهذا نوع من العبادة ما سلم منها نبي ولا رسول ولا عابد ولا عالم .فما من نبي إلا أوذي بجميع أصناف الأذى وصبر واحتسب، وما من صالح أو عابد إلا وتحمل الأذى ليصل إلى رضى ربه ومن الأذى عصيان النفس الأمارة بالسوء ؛ والنفس المتكاسلة عن الطاعات، بخلاف سائر الأذى الذي يشترك فيه مع بقية الناس من فقد مال ونفس وجوع وغيرها من صنوف الأذى التي لم يسلم منها طائع أو عاصي. 

ولكن الابتلاء بالنسبة للطائع له ميزة لا تضاهيها ميزة إن اتبع الهدي النبوي في تجاوزها ، فهو سوف يجتازها لا محالة ولكن العبرة بما بعد مرورها. فإن احتسب وصبر وتصبر ورضي بقضاء الله تعالى نال عدت أمور منها : قول صلى الله عليه وسلم : "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه" فهذا البلاء يكفر صغائر الذنوب التي لا حق لعبد فيها . وقوله صلى الله عليه وسلم : "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة". وميزة أخرى لمن اجتنب الكبائر يخرج من الدنيا بلا نذوب لكونها كفرتها المصائب، وهذا من رحمه الله بعبادة وحبه لهم . نعم حب الله عز وجل للعبد يدل عليه ابتلائه لينقيه من الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم : "إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ يُرِد الله به خيرًا يُصِبْ منه". وعن سفيان قال: "ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة، والرخاء مصيبة". ولنا في سلفنا الصالح أسوة حسنة نتسلى بهى ونتصبر، فقد كان شُريح يقول "إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمد إذ لم يكن أعظم منها، وأحمد إذ رزقني الصبر عليها، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو من الثواب، وأحمد إذ لم يجعلها في ديني" . وينال كل من رضى وصبر على ذلك رضا وسعادة وسرورا عجيبا وهو لا يزال في دائرة البلاء فسبحان من جعل مع العسر يسرا. كل ما سبق يناله العبد قبل خروجه من الدنيا أما في الآخرة له حظوة وميزة لا يناله غيره فقد قال سبحانه وتعالى : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. والناس يقفون ليحاسبوا على أعملهم ويطول ذلك الموقف فلا يعلم زمن الوقوف والحساب إلا الله، وأهل البلاء يدخلون الجنان بلا حساب، لما لاقوه من البلاء بالدنيا حتى أن بعضهم يتمنى العودة للدنيا لينال بلاء اعظم لما يراه من النعيم الذي خصة الله به في الآخرة. 

ولحتمية قدر الابتلاء يجب يعلم العبد المؤمن أنَّ الله قادر على نصر المؤمنين دونما ألم، وقادر على هداية الناس أجمعين، فلماذا إذًا هذا الإيذاء والظلم والمعاناة؟ والعبد قريب من الله تعالى بفعل الطاعات والابتعاد عن المعاصي. حقيقة الأمر أنَّ هناك سُنَّتَين من سُنن الله عزَّ وجل تبرزان أمام أعيننا عند الإجابة عن هذا السؤال.. أما السُّنَّة الأولى فهي أنَّ حرب الحقِّ والباطل حربٌ حتميَّة؛ بمعنى أنَّه لا يوجد زمان يختفي فيه الباطل كليَّةً ويُصبح الحقُّ مُمكَّنًا دون منازع؛ يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، ويقول أيضًا: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾. فمهما فعل المؤمنون الصادقون والدعاة المخلصون، ومهما بذلوا من جهد، ومهما أتقنوا البلاغ، سيظلُّ هناك كافرون ومحاربون للدعوة، ومهما تغيَّرت الظروف، ومهما تغيَّرت الأزمنة، أو الأمكنة، سيظلُّ هناك صدٌّ عن سبيل الله، وإذا فقه المؤمنون هذه السُّنَّة فإنهم في الواقع سيستريحون؛ لأنه لن تكون هناك مفاجأة، وإذا كان الأمر متوَقَّعًا فإن الإنسان لا يُصيبه الإحباط، بعكس مَنْ ينظر إلى الأمور بنظرة مثالية وردية غير واقعية؛ فإنه عندما يرى الناس يُخالفون وينحرفون فإنَّ ذلك سرعان ما يُحبطه، فيدخله اليأس والفتور، وهذا داء خطير يُصيب مَنْ لم يفهم هذه السُّنَّة. 

أمَّا السُّنَّة الثانية فهي أنَّ المؤمنين جميعًا سيُبتلون، ولن ينجو أحدٌ مهما كان من هذا الأمر! ستُبتلى الأُمَّة المؤمنة بصفةٍ عامَّة، وسيُبْتَلى كلُّ فردٍ من أفراد الأُمَّة المؤمنة بصفةٍ خاصَّة، ولن يكون هناك استثناءات؛ يقول تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ﴾، ويقول أيضًا: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجنَّة وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾، وأيضًا يقول تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾. فكلُّ هذا يُؤَكِّد حتميَّة الابتلاء، وضرورة الإيذاء. وهنا يبرز سؤالٌ آخر: إذا كان لا بُدَّ من الابتلاء، فما الحكمة من وراء ذلك؟ ولماذا اقتضت سُنَّة الله أن يُبْتَلَى المؤمنون؟ في رأيي أنَّ هناك ثلاثةً أسباب لحتميَّة هذا الابتلاء: 

الأوَّل التنقية : أقصد بها تنقية الصفِّ المسلم، وانتقاء أصلح العناصر لحمل الأمانة؛ فما أسهل أن يقول المرء بلسانه: آمنتُ وصدَّقتُ وأيقنتُ. لكن ما أصعب العمل! فلا بُدَّ من اختبارٍ لصدق الكلام، ولا بُدَّ من الابتلاء لتنقية الصفِّ المسلم من المنافقين؛ وذلك مصداق قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ﴾. 

الثاني التربية : الله سبحانه وتعالى يُريد لهذه الأُمَّة أن تقود العالمين، وحَمْلُ الأمانة بحاجة إلى رجالٍ من نوع خاصٍّ، تمرَّسوا على شتَّى أنواع المصاعب، وقيادةُ العالمين تحتاج إلى طراز فريد من الرجال والنساء، لا يهتزُّ أمام العواصف، ولا يرضخ أمام الأهوال. والابتلاء يُرَبِّي الصفَّ المؤمن، فيجعله يُعلي قدر الله عز وجل، ويستهين بأعدائه، وكأنَّ الابتلاء برنامج تدريبي متدرِّج للمؤمنين، يرتفع بمستواهم يومًا بعد يوم، وكلَّما عظمت مهامُّ المؤمن ازداد بلاؤه؛ فيزداد إعداده، تمامًا كما الذهب حين تُوقَد النار من تحته، فإنه يخرج أنقى مما كان، وكلَّما أردت نقاءً أعلى، كان لزامًا أن تزيد النار. وإنَّ هذا ليرفع كثيرًا من قيمة الدعوة في عين المسلم، فعلى قدر تضحيته يُقَدِّر الشيء الذي يُضَحِّي من أجله، ثم إن الابتلاء يُلْزِم المؤمن أن يتوجَّه إلى الله بالدعاء والرجاء والطلب، وطبيعة الناس بصفة عامَّة للأسف أنها تبتعد عن اللهِ عندما تعيش لحظات العافية؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، فصار من رحمة الله عز وجل بعباده أنهم يُبتلون فيلجئون إلى الله سبحانه وتعالى، فيكون هذا أفضل لعبادتهم، وأقوى لعقيدتهم. الثالث التزكية : أعني بها التطهير من الذنوب والخطايا؛ فالابتلاء يُكَفِّر الذنوب، ويرفع بذلك الدرجات، وأحيانًا يحبُّ الله عبدًا، ويُريد أن يرفعه إلى درجة عالية، وهذه الدرجة لا يبلغها بعمله، فيبتليه الله عز وجل فيصبر، فيبلغ الدرجة العالية؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ».

محمـد علي باشا

هو مؤسس الأسرة العلوية وحاكم مصر ما بين عامي 1805 إلى 1848. واستطاع أن يعتلي عرش مصر عام 1805 بعد أن بايعه أعيان البلاد ليكون واليًا عليها، بعد أن ثار الشعب على سلفه خورشيد باشا، ومكّنه ذكاؤه واستغلاله للظروف المحيطة به من أن يستمر في حكم مصر لكل تلك الفترة، ليكسر بذلك العادة العثمانية التي كانت لا تترك واليًا على مصر لأكثر من عامين. خاض محمد علي في بداية فترة حكمه حربًا داخلية ضد المماليك والإنجليز إلى أن خضعت له مصر بالكليّة، ثم خاض حروبًا بالوكالة عن الدولة العثمانية في جزيرة العرب ضد دعوة محمد بن عبد الوهاب وضد الثوار اليونانيين الثائرين على الحكم العثماني في المورة، كما وسع دولته جنوبًا بضمه للسودان. وبعد ذلك تحول لمهاجمة الدولة العثمانية حيث حارب جيوشها في الشام والأناضول، وكاد يسقط الدولة العثمانية، لولا تعارض ذلك مع مصالح الدول الغربية التي أوقفت محمد علي وأرغمته على التنازل عن معظم الأراضي التي ضمها. وخلال فترة حكم محمد علي، استطاع أن ينهض بمصر عسكريًا وتعليميًا وصناعيًا وزراعيًا وتجاريًا، مما جعل من مصر دولة ذات ثقل في تلك الفترة، إلا أن حالتها تلك لم تستمر بسبب ضعف خلفائه وتفريطهم في ما حققه من مكاسب بالتدريج إلى أن سقطت دولته في 18 يونيو سنة 1953 م، بإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية في مصر.

وبعد هذا العرض المختصر والتعريفي لمسيرة حياة محمد على باشا في الحكم، نقف عند بعض المحطات البارزة في حياته وهو حاكم على المسلمين لنرى سنة الله تعالى في عباده، والتي لا تتبدل ولا تتغير مع الزمان أو المكان، مصداقا بقوله تعالى : (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا). وذلك ليكون درسا وموعظة لكل مسلم قد يبتلي بتولي أمر من أمور المسلمين، فلا يقع في الظلم والغرور لأن عاقبتهما وخيمة كما نرى إن شاء الله. 

تذكر المصادر التاريخية أن محمد على باشا ولد في مدينة قولة التابعة لمحافظة مقدونيا شمال اليونان عام 1769، لأسرة ألبانية. وكان أبوه "إبراهيم آغا" رئيس الحرس المنوط بخفارة الطريق ببلده، وقيل أيضا أن أباه كان تاجر تبغ. وكان لوالده سبعة عشر ولدًا لم يعش منهم سوى محمد على، وقد مات عنه أبوه وهو صغير السن، ثم لم تلبث أمه أن ماتت فصار يتيم الأبوين وهو في الرابعة عشرة من عمره فكفله عمه "طوسون"، الذي مات أيضًا، فكفله حاكم قولة وصديق والده "الشوربجي إسماعيل" الذي أدرجه في سلك الجندية، فأبدى شجاعة وحسن نظر، فقربه الحاكم وزوجه من امرأة غنية وجميلة تدعى "أمينة هانم"، وأنجبت له إبراهيم وطوسون وإسماعيل ومن الإناث أنجبت له ابنتين. وحين قررت الدولة العثمانية إرسال جيش إلى مصر لانتزاعها من أيدي الفرنسيين كان هو نائب رئيس الكتيبة الألبانية والتي كان قوامها ثلاثمائة جندي، وكان رئيس الكتيبة هو ابن حاكم قولة الذي لم تكد تصل كتيبته ميناء أبو قير في مصر في ربيع عام 1801، حتى قرر أن يعود إلى بلده فأصبح محمد على قائد الكتيبة. ووفقًا لكثير ممن عاصروه، لم يكن يجيد سوى اللغة الألبانية، وإن كان قادرًا على التحدث بالتركية. وبهذه الطريقة تمكن محمد علي من الدخول إلى معترك الحكم والسياسية. 

وبعد فشل الحملة الفرنسية على مصر، وانسحابها عام 1801، تحت ضغط الهجوم الإنجليزي على الثغور المصرية، الذي تواكب مع الزحف العثماني على بلاد الشام، إضافة إلى اضطراب الأوضاع في أوروبا في ذلك الوقت. شجع ذلك المماليك على العودة إلى ساحة الأحداث في مصر، إلا أنهم انقسموا إلى فريقين أحدهما إلى جانب القوات العثمانية العائدة لمصر بقيادة إبراهيم بك الكبير والآخر إلى جانب الإنجليز بقيادة محمد بك الألفي. ولم يمض وقت طويل حتى انسحب الإنجليز من مصر وفق معاهدة أميان. أفضى ذلك إلى فترة من الفوضى نتيجة الصراع بين العثمانيين الراغبين في أن يكون لهم سلطة فعلية لا شكلية على مصر، وعدم العودة للحالة التي كان عليها حكم مصر في أيدي المماليك، وبين المماليك الذين رأوا في ذلك سلبًا لحق أصيل من حقوقهم. وبعد أن بايع أعيان الشعب محمد في دار المحكمة ليكون واليًا على مصر في 17 مايو سنة 1805م والذي أقره فيها الفرمان السلطاني الصادر في 9 يوليو من نفس العام، كان على محمد علي أن يواجه الخطر الأكبر المحدق به، ألا وهو المماليك الذين يشكلون قوى سياسية وعسكرية ضاربة في مصر. 

ولقد ذكرنا سلفا أن الحياة كلها امتحان واختبار من الله تعالى للعبد ليظهر مدى صدق الإيمان والإخلاص لله تعالى. فقد بدأت فصول الاختبار لمحمد على ولكنه كان لا يدري، ففي شهر يونيو من عام 1809، فرض محمد علي ضرائب جديدة على الشعب، فهاج الناس ولجأوا إلى عمر مكرم الذي وقف إلى جوار الشعب وتوعد بتحريك الشعب إلى ثورة عارمة ونقل الوشاة الأمر إلى محمد علي. وهنا استغل محمد علي محاولة عدد من المشايخ والعلماء للتقرب منه وغيرة بعض الأعيان من منزلة عمر مكرم بين الشعب كالشيخ محمد المهدي والشيخ محمد الدواخلي، فاستمالهم محمد علي بالمال ليوقعا بعمر مكرم. وكان محمد علي قد أعد حسابًا ليرسله إلى الدولة العثمانية يشتمل علي أوجه الصرف، ويثبت أنه صرف مبالغ معينة جباها من البلاد بناء علي أوامر قديمة وأراد يبرهن علي صدق رسالته، فطلب من زعماء المصريين أن يوقعوا علي ذلك الحساب كشهادة منهم على صدق ما جاء به. إلا أن عمر مكرم امتنع عن التوقيع وشكك في محتوياته. فأرسل يستدعي عمر مكرم إلى مقابلته، فامتنع عمر مكرم، قائلاً "إن كان ولا بد، فاجتمع به في بيت السادات." وجد محمد علي في ذلك إهانة له، فجمع جمعًا من العلماء والزعماء، وأعلن خلع عمر مكرم من نقابة الأشراف وتعيين الشيخ السادات، معللاً السبب أنه أدخل في دفتر الأشراف بعض الأقباط واليهود نظير بعض المال، وأنه كان متواطئًا مع المماليك حين هاجموا القاهرة يوم وفاء النيل عام 1805، ثم أمر بنفيه من القاهرة إلى دمياط. وبنفي عمر مكرم اختفت الزعامة الشعبية الحقيقية من الساحة السياسية، وحل محله مجموعة من المشايخ الذين كان محمد علي قادرًا على السيطرة عليهم إما بالمال أو بالاستقطاعات، وهم الذين سماهم الجبرتي "مشايخ الوقت".

أما الاختبار الأكبر الذي سقط فيه محمد على هو المذبحة اللانسانية التي ارتكبها بحق المسلمين المماليك بعد تصالحه معهم. فبالرغم من أن محمد علي استطاع هزيمة المماليك، وإبعادهم إلى جنوب الصعيد. إلا أنه ظل متوجسًا من خطورتهم، لذا لجأ إلى إستراتيجية بديلة وهي التظاهر بالمصالحة واستمالتهم بإغداق المال والمناصب والاستقطاعات عليهم، حتى يستدرجهم للعودة إلى القاهرة. كان ذلك بمثابة الطعم الذي ابتلعه الجانب الأكبر من المماليك، الذين استجابوا للدعوة مفضلين حياة الرغد والترف على الحياة القاسية والمطاردة من قبل محمد علي. إلا أن بعض زعماء المماليك مثل إبراهيم بك الكبير وعثمان بك حسن ورجالهم، لم يطمئنوا إلى هذا العرض، وفضلوا أن يبقوا في الصعيد.

وعندما بدأت دعوة محمد بن عبد الوهاب تقوى في أرض الحجاز بعد سيطرتها على الحرمين الشريفين، أرادت الدولة العثمانية ردعها وكلفت محمد على بارسالة قوة من أجل القضاء عليها، وهنا سقط محمد على في الابتلاء الرباني. فكان برأي محمد على تجريد تلك الحملة ورحيل جزء كبير من قواته خطر كبير على استقرار أوضاعه في مصر، فوجود المماليك بالقرب من القاهرة، قد يشجعهم على استغلال الفرصة لينقضوا على محمد علي وقواته. لذا لجأ محمد علي إلى الحيلة، فأعلن عن احتفال في القلعة بمناسبة إلباس ابنه طوسون خلعة قيادة الحملة ضد انصار محمد بن عبد الوهاب، وحدد له الأول من مارس سنة 1811، وأرسل يدعو الأعيان والعلماء والمماليك لحضور الاحتفال. ولبى المماليك الدعوة، وما أن انتهى الاحتفال حتى دعاهم محمد علي إلى السير في موكب ابنه. وتم الترتيب لجعل مكانهم في وسط الركب، وما أن وصل المماليك إلى طريق صخري منحدر يؤدي إلى باب العزب المقرر أن تخرج منه الحملة، حتى أغلق الباب فتكدست خيولهم بفعل الانحدار، ثم فوجئوا بسيل من الرصاص انطلق من الصخور على جانبي الطريق ومن خلفهم يستهدفهم. وراح ضحية تلك المذبحة المعروفة بمذبحة القلعة كل من حضر من المماليك، وعددهم 470 مملوك، ولم ينج من المذبحة سوى مملوك واحد يدعى "أمين بك"، الذي استطاع أن يقفز من فوق سور القلعة. بعد ذلك أسرع الجنود بمهاجمة بيوت المماليك، والإجهاز على من بقي منهم، وسلب ونهب بيوتهم، بل امتد السلب والنهب إلى البيوت المجاورة، ولم تتوقف تلك الأعمال إلا بنزول محمد علي وكبار رجاله وأولاده في اليوم التالي، وقد قُدّر عدد من قتلوا في تلك الأحداث نحو 1000 مملوك. وتعرض محمد علي للعديد من الانتقادات من المؤرخين بما فيهم غير المسلمين بسبب غدره بالمماليك في تلك المذبحة. وبعد هذه المذبحة انسحب المماليك الذين بقوا في الصعيد المصري إلى دنقلا بالسودان، ولكن كما نذكر لاحقا لم تقف سيوف محمد على من إبادتهم وهم خارج مصر، الأمر الذي انتهي ايضا بقتل إبنه اسماعيل باشا علي يد أحد ملوك المماليك.

وفي أواخر سنة 1811م بدأت حملات محمد على باشا بالفعل بقيادة إبراهيم باشا بن محمد علي وأخيه طوسون في التحضير والهجوم على الدولة السعودية الأولى، وبالفعل تمكنا من القضاء عليها بعد ست سنوات كاملة، واستطاع إبراهيم باشا أسر آخر حكام تلك الدولة الأمير عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود والمجيء به إلى القاهرة سنة 1818م مكبّلا في أغلاله ليلتقيه محمد علي باشا بالحفاوة والترحاب، ويأمر بإرساله إلى إسطنبول التي أنزلت فيه عقوبة الإعدام الفورية، وبذلك أُسدل الستار على الدولة السعودية الأولى[9]. قدّر المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي المعاصر لتلك الأحداث عدد المأسورين من آل سعود شيوخا وشبابا ونساء وأطفالا ممن رآهم في القاهرة بأربعمئة شخص، وتم التحفظ عليهم في منطقة الأزبكية منها، لكن سرعان ما تهاوت قبضة محمد علي، وبدأ هؤلاء في الاختلاط بأهل مصر، والخروج لشراء حاجياتهم[10]. لذلك استطاع أحد أفراد آل سعود وهو مشاري بن سعود بن محمد آل سعود الهرب من المعسكر المصري والعودة إلى الدرعية التي فيها عمل على إعادة إحياء دولة آل سعود، بل وتمكن من التوسع في مناطق نجد الأخرى مثل حريملاء والوشم ووصل إلى سدير والسلمية واليمامة والدلم.

هناك حلّ یعرضه القرآن الکریم علی المؤمنین لیتجاوزوا به کل الصعوبات والعراقیل التي یواجهونها في حیاتهم والتي تعدّ إمتحاناً وإبتلاءً إلهیاً.حيث يقول الله تعالى (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). وجاء في تفسیر هذه الآیة الكريمة : إن الحیاة ساحة سباق وإبتلاء ونمو وکمال. في ساحة السباق هناك عراقیل وصعود وهبوط وإن الإنسان ینمو عندما یتجاوز العراقیل بطریقة سلیمة وصحیحة وهنا ینمو الإنسان وإن کل ما فیه من ضعف یتحول إلی قوة وإن ذلك إمتحان له. وإن الصعوبات التي یواجهها الإنسان في الحیاة هي العراقیل التي نتحدث عنها وربما تتمثل تلك العراقیل في ضیق إقتصادي أو معاناة من مرض أو موت قریب أو سوء تعامل الآخرین وکل هذه العراقیل یجب تجاوزها. وطبعاً یتجاوزها بسهولة أکبر کل من یحمل نسبة وعي أکبر ویکون أکثر معرفة بالقرآن الکریم والسنة النبوية المطهرة. ولکن هناك ثلاثة أمور تعزّز قوی الإنسان وتجعله أکثر قوة وصمود وهي التوکل علی الله والصبر الجمیل والتقوی. وقال الله تعالی (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِینُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ یُورِثُهَا مَن یَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ). وتحمل الآیة الکریمة خریطة طریق یقدّمها النبي موسى عليه السلام لقومه بني إسرائیل لیواجهوا بها خطر فرعون ویشرح لهم سبیل النصر علی الأعداء ویذکرهم بأن نصرهم رهن ثلاثة أمور. أسرار تجاوز العقبات في الحیاة من منظور القرآن أولها الإستعانة بالله عز وجل "قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ"، والثاني الصبر وهنا النبي موسی عليه یوصي قومه بالصمود والثبات علی الطریق الصحیح حیث نری النبي موسی عليه یطمئن قومه بأن (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ)وآخر شروط النصر وتجاوز الإمتحان الإلهي هو التقوی لأن الله تعالی یقول (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). والتوكل على الله هو السبيل لخلاص الإنسان، أي يجب أن نعلم أن الكون كله ملك لله وأن أمره يحكم الكون كله ولا تسقط ورقة الشجرة إلا بإذنه. الصبر الجميل أيضاً هو السبيل للتغلب على المشاكل، کما أنه يمكننا من خلال التحلي بالصبر والاستقامة مقاومة إغراءات الشيطان. والتقوى هي أيضاً مفتاح الخروج من المشاكل، وهذا هو وعد الله سبحانه وتعالى لعباده کما قال الله سبحانه وتعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا).