الصوفية والسياسة في موريتانيا ..أسئلة الوصل وآفاق العلاقة 1

خميس, 02/21/2019 - 19:31

محمد سالم -ريم آفريك

بترشح الفريق محمد بن محمد أحمد بن الشيخ الغزواني ينضاف بعد جديد إلى الممارسة السلطوية في موريتانيا، حيث من المتوقع أن يتم تصعيد أحد أبناء الأسر الصوفية المرموقة في موريتانيا إلى المنصب الأسمى في هيكلة السلطة في موريتانيا، ليكون بدلك ثاني رئيس من الأسر الصوفية لموريتانيا بعد الرئيس المطاح في انقلاب 2008 سيدي محمد بن الشيخ عبد الله الذي لاذ بعد الانقلاب بأوراده ومسجده في إحدى القرى الصوفية العتيقة وسط البلاد.

وإذا كان البعد الصوفي لوزير الدفاع - المرشح الأوفر حظا في الوصول إلى الرئاسة – من أقل الأبعاد التي تهيئ له خلافة صديقه الرئيس محمد ولد عبد العزيز، فإنه يمثل بالنسبة له عنصر قوية وإضافة شعبية في النزال الانتخابي والطريق نحو كرسي الرئاسة

وليست العلاقة بين التصوف والسياسة في موريتانيا جديدة، ولا حديثة وإن مرت في بعض الأحيان بفترات شد و"جدب"

لا يمكن إغفال الدور الأساسي الذي أدته الطرق الصوفية في موريتانيا في نشر الإسلام وتوطيد مستوى من مستويات الأمن في البلاد خلال فترة السيبة، حيث مثلت الحضرات الصوفية حرما آمنا في الغالب يأوي إليه كثيرا من الناس فرارا من عالم السيبة والاضطراب الأمني السائد في البلاد

ولم تخل العلاقة بين المشايخ الصوفيين والزعامات السياسية في موريتانيا خلال فترة ما قبل الاستعمار من إقامة جسور من المرجعية والتوجيه الروحي والثقافي الذي مارسته الحضرات الصوفية تجاه الأمراء، وفي بعض الأحيان ارتفع الأمر إلى محاولة تأسيس كيانات سياسية يشرف عليها التصوف أو تنشأ برعايته كما هو حال مشروع " مؤتمر تندوجة" الذي دعا إليه الشيخ سيديا بن المختار منتصف القرن التاسع عشر إضافة إلى الدور المحوري لحضرة الشيخ سيدي المختار الكنتي في الشرق وأزواد، إضافة إلى الدور السياسي والعلمي الذي أدته الحضرة المعينية في الشمال الموريتاني وفي المملكة المغربية

ومع دخول المستعمر الفرنسي توزع الرأي الصوفي في اتجاهات مختلفة، حيث وجد الفرنسيون في بعض المرجعيات الصوفية سندا داعما بناء على مقاربات قوامه السعي إلى فرض الأمن الدين يشكون من انعدامه، ويرون في الاستعمار الفرنسي فرصة لتوطيد دعائمه

ولم يتوان زعماء صوفيون آخرون في حمل السلاح ضد المستعمر ومحاربته في معارك متعددة، وحتى في محاربة من يناصره أو يستظل بأمنه من الطرف الآخر

وبين الطرفين اختارت طرق صوفية أخرى الهجرة عن المنطقة المحتلة باتجاه مناطق جديدة، متناسين أن الاستعمار الأوربي فرض سيطرته على الجميع

نظام الاستقلال ..الدولة أولا 

 

واجه التصوف في بداية الاستقلال حملة إعلامية وسياسية متعددة من النظام السياسي الحاكم في موريتانيا لأبعاد متعددة بعضها شخصي يتعلق بحالة من الخلاف بين النظام الجديد وأغلب القوى التقليدية التي كانت تسعى إلى فرض مرشحيها لرئاسة موريتانيا وفي بعض الأحيان لم تكن ترى في ولد داداه الرئيس الأمثل والأقدر على حماية مصالحها أو التناغم معها

وفي السياق نفسه كان ولد داداه ساعيا إلى توطيد أركان حكمه وإزاحة العوائق السياسية وتقليص دور المرجعيات السياسية والروحية والاجتماعية سعيا إلى إقامة نموذجه في الحكم والسياسة.

لقد انتقد المختار ولد داداه رحمه الله في أكثر من مرة بعض ممارسات الزعامات الصوفية، كما انتقد رحلات المشايخ نحو السنغال حيث يلتقون هنالك بأتباعهم ويتلقون الهدايا الوافرة منهم وفي أحيان كثيرة كان ولد داداه يتلقى أجوبة قارصة من قبل المحسوبين على الجماعات الصوفية

وقد التقت حلقتا التحريض على التصوف وعلى الممارسات الدينية التقليدية من قبل الإعلام والسلطة الرسمية، كما نشط الشباب الحداثي في موريتانيا في حملة مفتوحة ضد التصوف وضد كثير من الممارسات والقيم دات البعد الديني معتبرين أنها بعيدة عن روح الإسلام الأصلية أو تمثل عائقا نحو الحداثة والتقدم.

ومع بروز التيار الإسلامي نهاية السبعينيات استلم شباب هدا التيار راية الهجوم على التصوف والتشكيك في كثير من مركزياته والنيل من رموزه، رغم أن عددا كبيرا من أبناء الأسر الصوفية في موريتانيا وخصوصا التيجانية كانوا في طليعة المؤسسين للتيار الإسلامي في موريتانيا.

لقد عاشت العلاقة بين نظام الاستقلال والتصوف بين حبال التوتر في حالات كثيرة، أو التجاهل المتبادل بين الطرفين.

 

العسكر والتصوف ..التعايش السلبي

لم تكن الأنظمة العسكرية المتعاقبة على موريتانيا مند الإطاحة بنظام الرئيس المختار ولد داداه وحتى الانفتاح الديمقراطي في 1992 أكثر فعالية مما كانت عليه خلال حقبة الرئيس المؤسس المختار ولد داداه، لكنها لم تشهد صدامات قوية، وظل التعايش السلبي أبرز ما يمثل المرحلة التي شهدت مستويات عالية من الاضطراب في بنية الحكم ومراكزه.

ومع دلك حافظ القادة العسكريون على شعرة معاوية من خلال الزيارات المتعددة إلى المراجع الصوفية، دون أن يكون لهؤلاء أي دور في توجيه بوصلة الحكم أو المشاركة في الاستقطاب السياسي.

 

الديمقراطية ..التصوف كفاعل سياسي

 

مع الانفتاح الديمقراطي في موريتانيا سنة 1992 ومع تأسيس الأحزاب السياسية وفتح هامش من الحرية ودوائر جديدة للصراع والتنافس السياسي بعد أن كان التنافس محصورا على منصب الرئاسة، صعد نجم التصوف في المجال السياسي وأصبح الحضرات الصوفية، بما هي مراكز حشد اجتماعي وقوة سياسية جزء فاعلا من المعادلة الانتخابية.

ومع الزمن وجد نظام الرئيس معاوية ولد الطايع في التصوف والمرجعيات التقليدية، سندا لتوطيد نظامه ومنحه مستوى كبيرا من الشرعية في مواجهة معارضاته المتعددة في أحزابها ومدارسها الفكرية.

ومع ولد الطايع وجد التصوف حالة من الاحتفاء والتقدير لرموزه ومرجعياته، وقد فرض الوزن الانتخابي للتيارات الصوفية في موريتانيا على الحزب الجمهوري والسلطة بشكل عام في موريتانيا التعاطي معها بشكل إيجابي، وهكذا دخل البرلمان والبلديات نواب وعمد ينتمون إلى عمق المدارس الصوفية بمختلف أطرافها في موريتانيا، وأصبح التصوف إحدى الأوراق الأساسية لنظام الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع.

 

التصوف اليوم ..تجديد وحضور سياسي

 

تراجعت القوة السياسية للتصوف خلال العشرية الماضية خلال العشرية المنصرمة، مفسحة المجال لبروز قوى سياسية واجتماعية أخرى من أبرزها التيار الإسلامي والتيارات ذات المطالب العرقية.

وقد صاحب دلك التراجع مستوى كبير من تجديد علاقات التصوف بالسلطة والمجتمع والأطراف المختلفة، حيث فتحت الأسر الصوفية علاقات مع مختلف التيارات الفكرية والحقوقية، كما عامل الزمن فرض مستويات من تجديد الرموز داخل مختلف الزعامات الصوفية في موريتانيا، حيث طوى الموت عددا من الزعامات الصوفية الكبيرة خلال السنوات العشرين الماضية، وتراجع حضور وفعالية عدد من الحضرات الصوفية، وظهرت شخصيات صوفية جديدة استطاعت أن تضع بصماتها على المشهد من جديد.

كما أن العلاقات الخارجية للصوفية في موريتانيا قفزت بشكل كبير، ومدت حبال الوصول مع بيئات كانت توصف بأنها "مناطق سلفية"

وعلى كل حال فإن التصوف استطاع خلال القرون الثلاثة المنصرمة أن يقوم بأدوار كثيرة من مهام الدولة في ظل غياب السلطة المركزية، ولعل من أبرز تلك الأدوار

  • التعليم والتربية حيث كانت الحضرات الصوفية محاظر وجامعات تعليمية متنقلة وثابتة.
  • الاستقرار والتمدين : فقد كان للتصوف دور مهم في إنشاء الحواضر والاستقرار  في أنحاء متعددة من الوطن
  • السلم الأهلي : عبر سياج التقدير والحماية الذي كان يقر به الجميع للطرق الصوفية ويمثل ضمن فعاليات ومعالم أخرى حالة من "أحلاف الفضول" ومناطق العزل الآمن في منكب السيبة.
  • الدبلوماسية الروحية : ففي مختلف حدود موريتانيا فرض التصوف مستويات كبيرة من المرجعية والدبلوماسية الصوفية بين دول الجوار ومثل جسرا للعلاقة بين سكان الحدود بين الضفتين وفي مناطق الشرق والشمال.

ولا يزال التصوف أحد الأوراق الاستيراتيجية المهملة في موريتانيا، والتي يمكن أن تتحول مع الزمن إلى قوة ناعمة ومؤثرة وخصوصا في العلاقة مع مختلف دول الجوار

وضمن مقاربة دور التصوف ومراكز قوته وفعالياته ننشر حلقات متواصلة عن أهم الطرق والمرجعيات الصوفية في موريتانيا وذلك عبر حلقات متواصلة

يتواصل