أبو إسحاق الدويري يكتب:
حين تتصفح أسفار التاريخ، وطبقات التراجم ومعجمات الرجال، ودواوين الرثاء العربي تتوهم أن تلك المناقب المسطرة هناك أخيلة صاغتها ألسن الشعراء، أو أساطير سجلها المؤرخون لولعهم بالغرائب، أو أنها في أفضل حال أماني انتقاها المصلحون للتأسي والاقتداء، وهذا التوهم قد يكبر معك حتى يصير ظنا فيقينا خصوصا إذا بعد بك الزمان عن الصدر الأول وحاكمت أهله وهممهم إلى أهل زمانك وهممهم، ومن هنا كان هاجس ابن خلدون الذي حاكم التاريخ ومروياته إلى معايير أوانه فأفلح في البعض وخالفه التوفيق في البعض الآخر، والحقيقة أن التاريخ وإن كان أبا الأباطيل فإنه أخ الحقائق وابنها، والشعراء ليسوا أكثر من مدوني مناقب أفراد أفذاذ يجود بهم الزمن بين الحين والحين لتطمئن البشرية على سلامة فطرها الخيرية، بل ولتصدق مؤرخيها، وتعذر شعراءها، وإن معاصرة مثل شهيد الخير والقرآن والنبل والتبتل والإنفاق والقيادة والعراقة والنجاح والبسمات والتلقي والتوفيق وما شئت مما يحمد به بنو آدم لدليل على صحة التاريخ وصدق الشعراء وإمكانية التأسي، يا سيدي إن الإطالة زمن الفجائع مما يذم لكنه بين يديك كتب التاريخ والمناقب ودواوين الشعراء، وفي كتاب ربك المحفوظ صفات المتقين، فهات أي صفة أو منقبة خامرك شك من حقيقتها نريكها مشاهدة أو تواترا تحققت في ادو ول سيد ألمين، سألت دكتورا فاضلا من ألصق الناس بفقيد القرآن (وكل ما لقيه لصيق به) عن مفتاح شخصية ادو، وكان الدكتور المسؤول يعاني من هول الفاجعة وإرهاق السفر إذ كان يراسلني وهو في الجو؛ فقال ما معناه إن شئت الاختصار فقل؛ إن مفتاح شخصيته التلذذ بالعطاء والإنفاق ومساعدة الناس والتبتل، وإن شئت أن تترجم له فقل لهم إن المولود الذي ازدانت به الدنيا في يوم من أيام 1974 في ولاية الحوض الغربي حيث مضارب "أولاد ناصر مظلوم ومضطهد" فتى فتحت له الدنيا أبوابها علما وعملا ومالا لكنه آثر ما عند الله يحث خطى سريعة تطرق أبواب الخير في مختلف القارات؛ في الصين حيث كان له الدور المشاهد في تشييد المساجد والمصليات وتدبير مصارفها وإعمارها صلاة واعتكافا وإرشادا، وفي الحرمين حيث كان يؤمهما حجا واعتمارا كل عام هربا من ضوضاء الدنيا وبهارجها، وتقربا إلى الله في أحب البقاع إليه، ومجاورة للنبي صلى الله عليه وسلم وتجديدا للاقتداء به وبصحابته عبادة وبذلا، ثم ينفر بقية عامه إلى بلده الأصلي صلة للأرحام (وكل المسلمين له رحم) يصلهم بالخدمات والبسمات وقضاء الحاجات، ويتعهد المساكين والأيتام والأرامل ومعاهد القرآن الناجحة حيث يعود له الفضل مع بقية زملائه أهل ورش في تشييد هذا النوع من المعاهد النموذجية المحافظة على علاقة أهل المنارة والرباط بالقرآن حفظا للحروف والحدود، وهناك في آدوابه بعيدا عن الأعين كان سيد أحمد يشيد المحاظر وينفق على معلمي الناس الخير إنفاق من لا يخشى فقرا،.. إلى هنا فجأة انقطع الخط عن محدثي ثم عاد، فقلت له هذا خبر الفقيد في الجو والبر فما خبره في البحر؟، وكنتُ ذات لقاء قصير في الصين بـ"شيده" حدثنا عن تجربته في البحر وملاحة السفن في المحيطات، قال الدكتور الفاضل؛ لقد قدم سيد أحمد إلى الصين صيف سنة 1994 وبدأ دراسة اللغة الصينية في بكين حيث مكث فيها السنة الدراسية المعهودة للغات، وبعدها انتقل إلى جامعة الشؤون البحرية في مدينة داليان ليحصل على البكالوريوس تخصص الملاحة البحرية (قبطان بحري)، وبعد نجاحه بامتياز حصل على تمديد المنحة ليكمل الماستر في نفس الجامعة تخصص تسيير الموانئ، وقد سافر إلى الصين لحصوله على منحة من الدولة لأنه من المتفوقين في البكالوريا شعبة الرياضيات من ثانوية لعيون – حرسها الله - لم يرق للحر الكريم سيد أحمد العمل الوظيفي، وخلال تفرغه البحثي شهدت الصين انفتاحا تجاريا على العالم فتوجه نحو التجارة ليكذب مقولة التوحيدي التي تقول: "إن التجار حالت بينهم وبين المروءات كسب الدوانق"، فقد كانت تجارة سيد أحمد لإحياء المرواءت المتأصلة في قومه وحيه، قلت للدكتور محمد مولود ما هي شهادتك في معايشة قرابة عقدين من الزمن في الغربة والوطن؟، قال الشهادات كثيرة عندي وعند غيري، لكن انقل عني اثنتين؛ الأولى: لا أذكر أني رأيته مفطرا في اثنين أو خميس خلال خمسة عشر عاما، والثانية: أنك تعرف أن العرب اعتادوا أن ينقلوا إلى مهاجرهم خلافاتهم وإخفاقاتهم وصراعاتهم وقد حفظ الله الجالية العربية في الصين بالرئيس سيد أحمد حيث شكل حالة إجماع نادرة قل نظيرها، وهنا تذكرت أنه في العطلة الصينية الماضية زارنا بعض الأصدقاء من الصين، وكانوا أيام الانتخابات التي توج على أثرها فقيد الخير بوسام المكتب الأكثر ثقة، كان الأصدقاء منهمكين في التصويت وكأنهم يؤدون واجبا وطنيا، وقد لاحظت حينها وقبل ذلك أن الجميع يتكلم عن "شيده" بإكبار وإجلال، ومن منطق البنوة والأخوة والصداقة، عذرت الدكتور المسافر وشكرته، وسألت أفرادا متفرقين من الجالية عن حالهم بعد الفقيد، وكيف كانت علاقاته بهم، فقال لي أحدهم وهو أحدثهم سنا؛ لا يوجد أحد هنا إلا وهو صديق للرئيس، ثم أضاف وإن مما عرفت أنه كان يدعوني دائما لعشاء ثم أجد أصدقاء أمامي لا علم لأحدهم بالآخر ثم يصنع لنا الشاي بيده وهو من هو، ثم يذكرنا بالله وينصحنا سرا، هذا عدة مرات، سألت الثاني: فقال لي: "الله ينسخ حد هون ما هو مَتْيَتَّمْ بعده من العرب إلى الأفارقة إلى النصارى إلى الصين"، لقد أشاد بالمرحوم المنعم كل عارفيه إشادة إجلال وإكبار وتأثر منقطع النظير، وإن أنت عدت لصدر هذا التأبين فاعلم أنما تذكره كتب التراجم عن ابن المبارك والفضيل بن عياض ليس مستحيلا، وأنما يذكره الشعراء أن بعض الناس كـ"الحلال الحلو والبارد العذب" ليس خيالا، وأن قول الشاعر القديم:
ملأت يدي من الدنيا مرارا... وما طمع العواذل في اقتصاد
ولا وجبت عليَّ زكاة مال ... وهل تجب الزكاة على الجواد؟
حقيقة ثابتة رواها الدكتور عن الفقيد وشاهدها،
الناس شهداء الله في أرضه، وقد شهد العلماء الربانيون والقادة والزعماء والحفاظ والبسطاء للمرحوم بكل خير وكل منقبة، فالله يرفع درجته في عليين ويحسن عزاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيه، ويحسن عزاء ذويه يلطف بنا وبهم بعده،
أحاول التركيز لكن بالصدر حزاز من الحزن حامز، و:
حبل الفجيعة ملتف على كبدي.. من ذا يعاتب مفجوعا إذا اضطربا
وليس لنا إلا أن نردد مع الشاعر التقي:
فلْيُبرد الله أكبادا موَّلهةً *** منهم ومنا ومن كل الأناسين
وبارك الله في أهل وفي خلف *** غُرٍّ ميامين من غُرٍّ ميامين..
طال المقال وما ذكرت شيئا مما كنت أقول، وقد كان أحدهم أكثر حكمة حين قال: "شاب جمع إلى "الثراء" حسن الخلق والعبادة وكاريزما القيادة، وكرم العشرة، وسخاء الكف... ثم حمل هم الدعوة ودأب على العبادة.. فلما شيد وعمر بيوت الله، ونهض بتعليم القرآن، وفتح أمام الدعوة كل مغلق.. اختاره الله لجواره...فما ذا عسى يكتب عنه؟".