لماذا يهاجم العلمانيون العرب الإمام الشافعي

اثنين, 05/02/2022 - 12:19

من الشائع المتداول بين العلماء قديما وحديثا أن الإمام محمد بن إدريس الشافعي (150- 204 هـ) هو أول من دون علم أصول الفقه، في كتابه المشهور "الرسالة"، ووفقا لباحثين فقد اعتبر الشافعي مجدد القرن الثاني الهجري، وناصر أهل الحديث، وهو أحد أئمة المذاهب الأربعة الفقهية المتبوعة عند أهل السنة والجماعة. 

يُعرَّف علم أصول الفقه بأنه "العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية"، فهو علم معياري يضبط عملية الاجتهاد، ويحدد طرق استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، ويرسم معالم منهجية قراءة النصوص الشرعية وفهمها والاستدلال بها. 

ودرجت المناهج والمدارس الشرعية التعليمية على تدريس علم أصول الفقه ضمن مقرراتها الشرعية الأساسية، بوصفه علما يُكسب المسلم عموما، وطالب العلم الشرعي خصوصا منهجية منضبطة في قراءة النصوص الشرعية وفهمها، والاستنباط منها، وهو ما استقر عليه اجتهاد أئمة الدين، وعلماء الملة الإسلامية منذ عصورها المبكرة إلى زماننا هذا. 

ولما كان علم أصول الفقه علما معياريا ضابطا لقراءة النصوص واستنباط الأحكام منها، بما قرره وقعده من قواعد وأصول للاستدلال والاستنباط، فإن كثيرا من القراءات الحداثية بمنهجياتها المختلفة المفضية إلى إحداث قطيعة معرفية مع علم أصول الفقه، والداعية إلى تجاوزه، ناصبته العداء، وأكثرت من مهاجمته، وكان للإمام الشافعي بوصفه أول المدونين له نصيب الأسد من التهجم والنقد الشديد. 

اتهامات الحداثيين العرب للإمام الشافعي تراوحت بين وصفه بالتضييق على العقل المسلم وحبسه في قواعد معينة، وانغلاقه عليها، وتكريسه لمنهج الحرفية والظاهرية، وتجذير الفهم الأحادي للنصوص، وقد تتبع الباحث أحمد قوشتي عبد الرحيم في كتابه المعنون بـ"موقف الاتجاه الحداثي من الإمام الشافعي.. عرض ونقد" أقوال كثير من الحداثيين كمحمد أركون، وأدونيس، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد شحرور، وجورج طرابيشي.. وغيرهم. 

فالأكاديمي والباحث الجزائري، محمد أركون يرى أن الشافعي "ساهم في سجن العقل الإسلامي داخل أسوار منهجية معينة، سوف تمارس دورها على هيئة استراتيجية لإلغاء التاريخية" وهو كذلك "أراد الحط من قيمة الاجتهادات الشخصية من رأي واستحسان". 

وحسب الكاتب والباحث المصري نصر حامد أبو زيد فإن الشافعي "يبدو وكأنه يؤسس بالعقل إلغاء العقل" وله محاولة "لنفي الخلاف، وللقضاء على التعددية" وقد "حاول استخدام بعض آليات التفكير العقلي ليبرر نفي العقل وحبسه في دائرة النصوص" وأسس لسيطرة سلطة النصوص، كما أن مواقفه الاجتهادية "تدور في أغلبها في دائرة المحافظة على المستقر والثابت، وتسعى إلى تكريس الماضي بإضفاء طابع ديني أزلي". 

وذهب الشاعر والأديب السوري، أحمد سعيد إسبر، المعروف باسمه المستعار "أدونيس" إلى أن فكر الشافعي لا يحمل أي سمة للتجديد أو الابتكار أو تأسيس معرفة جديدة، لأن هذا الفكر وموقفه المعرفي ـ في نظره ـ يؤدي إلى ذوبان الفرد في الجماعة، ولا ينتج معرفة جديدة، وإنما "يعيد بصيغ أخرى إنتاج المعرفة السابقة، وبهذا المعنى نسميها شرحا أو تفسيرا، أو تفريعا.. لكننا لا نستطيع أن نسميها معرفة جديدة. 

ووفقا لباحثين فإن مهاجمة كثير من الحداثيين العرب للإمام الشافعي، باعتباره أول من دون علم أصول الفقه، وأظهر قواعده، ترجع إلى نزوعهم العميق للتحرر والانعتاق من تلك المنهجية الأصولية، لأنها تضع معايير دقيقة لقراءة النصوص الشرعية، وتضبط عملية الاجتهاد، وتضع قيودا صارمة أمام القراءات المعاصرة لنصوص القرآن والسنة. 

وفي هذا الإطار نبَّه أستاذ الفقه وأصوله بدار الحديث الحسنية بالمغرب، الدكتور الناجي لمين على "أن النخبة العربية في هذا الموضوع (وغيره) مقلدون فقط للمستشرقين الذين يعرفون جيدا أثر الشافعي العظيم في تقرير الضوابط لحفظ الشريعة من التسيب، لأن مجهود الشافعي انحسم به الخلاف بين أهل السنة في قضايا معرفية خطيرة". 

 

وتابع ذكره لبعض تلك القضايا بالقول: "الاتفاق على إخضاع عملية الاستنباط لنسق كلي عام، بحيث أصبح كل من يروم التحدث في الحلال والحرام أو الاستدلال لاختياراته الفقهية مُلزَما بأن يُمهد لذلك بمقدمة تبين أصوله، وترسم منهجه في الاستنباط، بطريقة تُمَكن مخالفه من محاكمة اختياراته واجتهاده إلى هذه المقدمة النظرية". 

وأضاف: "الاتفاق على ترتيب أدلة التشريع على الشكل التالي: الكتاب والسنة ثم الإجماع ثم القياس، حيث صار المؤلفون في أصول الفقه يعالجون الأدلة الإجمالية على أساس هذا الترتيب، الاتفاق على مركزية قوانين اللغة العربية في تفسير النصوص واستفادة الأحكام الشرعية، وكذلك الاتفاق على التمييز بين الاختلاف المعتبر من غيره..". 

وردا على سؤال لـ "عربي21" حول ما يقوله الحداثيون العرب من أن المنهجية التي قررها الشافعي قيدت العقل المسلم، قال الأكاديمي لمين: "هذا القول يكذبه الواقع، فالمسلمون أسسوا حضارة عقلية لا يُعرَف لها نظير في تاريخ البشرية، وقدّموا للبشرية دينا تحكم فهمه مؤسسات، وليست آراء أفراد". 

وأردف: "ويكفي أن نُذكِّر هنا بأن أوروبا مثلا بَنَت نهضتها من خلال ما تقرر من علوم طبيعية ورياضية وفلسفية عند علماء المغرب والأندلس، كما يُكَذبه الواقع من جهة ثانية، وهي أن المذهبين المالكي والحنفي مخالفان للمذهب الشافعي في كثير من الأصول، على رأسها الاستحسان والذرائع والمصالح المرسلة والعرف.. ونحن نعلم أن المذهب المالكي تأسست به حضارة المغرب والأندلس، بل إن أول جامعة في العالم كانت بفاس، ونوقشت بها أول أطروحة في الطب في العالم". 

وواصل: "كما أن المذهب الحنفي كانت تَسِير به خلافة لا تغرب عنها الشمس إلا قليلا، وهي الخلافة العثمانية التي كانت مهيبة الجانب قرونا. ويكذبه الواقع من جهة ثالثة، وهي أن الشافعي خالفه أتباعه كثيرا، فنحن نعلم أن علم أصول الفقه على طريقة المتكلمين (طريقة الشافعية) أُسس على غير منهج كتاب "الرسالة".. بل إن كتاب "الرسالة" سُحِب من مجالس الدرس الأصولي في وقت مبكر، والدليل أنه لم يصلنا أي شرح من شروحه". 

وفي ختام حديثه خاطب الحداثيين بالقول: "قد مُكِّن لكم طوال قرن وربع القرن من الزمان، فماذا قدمتم لأمتكم؟ هل عاش المسلمون المعاصرون في عهدكم العزة التي عاشها المسلمون عندما كانت تحكمهم بزعمكم منهجية الشافعي.. هذا هو السؤال الحقيقي". 

من جهته قال الباحث الفلسطيني، سعيد الصرفندي: "في الحقيقة لا نعلم على وجه اليقين أحدا قبل الشافعي تحدث عن حجية السنة بالشكل الذي أشار إليه الشافعي، فقد جعل الحديث الصحيح بحسب الصنعة الحديثية، كأنه وحي تشريعي، وقال ما حُفظ عنه "إذا صح الحديث فهو مذهبي" مع أن من سبقه من الفقهاء كمالك وأبي حنيفة لم يقولوا ذلك".
 
وأضاف الصرفندي الذي يرى أن القرآن فقط هو مصدر التشريع لـ"عربي21": "إذ قدم مالك عمل أهل المدينة على الحديث الصحيح وقدم أبو حنيفة العقل أحيانا على النص، فكان الشافعي بذلك قد أسس لمرحلة جديدة، قيدت العقل المسلم بقواعد أهل الحديث التي سميت تجاوزا "علم الحديث" على حد قوله.
 
وأرجع الصرفندي أسباب مهاجمة الشافعي إلى "كونه لم يقدم دليلا قرآنيا على أصوله التي أضافها إلى القرآن، كالسنة والإجماع والقياس، فاستدلاله على السنة يكاد يكون مضحكة في زماننا، وفق عبارته، زمن الأبحاث الجامعية، إذ قال "سمعت من أثق به من أهل العلم بالقرآن أن الحكمة هي السنة" مخالفا بذلك قواعده في وجوب فهم القرآن بمقتضى لسان العرب، ولم نجد في لسان العرب ما يشير إلى أن الحكمة هي السنة، أي أن الشافعي بنى على أسس ضعيفة بناء عاليا".

ووصف الصرفندي اتهام الذين يخالفون الشافعي بأنهم يريدون الانعتاق من المعايير الدقيقة التي دونها الشافعي بأنه "مخالف للواقع وللحقيقة، ففي زمن تطور مناهج البحث العلمي، نجد أن منهج الشافعي وغيره من علماء عصره كان محكوما بجملة من السياقات الوجودية والمعرفية، التي تجاوزها زماننا، كما سيتجاوز المستقبل مناهجنا نحن، لذلك نرى أن تقديس قواعد الشافعي ومعاييره حتى هذا الزمان، فيه جناية على الإسلام، وعلى العقل المسلم" وفق قوله. 

بدوره وصف المدون الأردني، المشرف على منصة (في نقد القراءات المعاصرة) على الفيسبوك، الدكتور فراس عجلوني "الحداثيين العرب بالعلمانيين، وقد استبدلوا وصف الحداثة بالعلمانية حتى لا ينبذهم عامة المسلمين، فهم يؤمنون بفصل الدين عن الحياة، ولذلك تجدهم يهاجمون ويطعنون بكل ما يثبت ويؤكد صلة الإسلام بالحياة، ومن ذلك طعنهم بالصحابة رضوان الله تعالى عليهم، الذين نقلوا الإسلام وحملوه وطبقوه في واقع الحياة كما تلقوه وفهموه من الرسول صلى الله عليه وسلم". 

وأردف: "وكذلك طعنهم بالسنة النبوية باعتبارها المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، والتي فيها بيان القرآن وكيفية تطبيقه، ثم هجومهم على الفقه الإسلامي وأصوله، والفقه الإسلامي الذي يهاجمونه بالطعن والتشويه هو الأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية، وهي الكتاب والسنة وما أرشدا إليه". 

وعن طبيعة عمل الشافعي في أصول الفقه، أوضح العجلوني لـ"عربي21" أن أصول الفقه هو قواعد استنباط الأحكام من أدلتها، وهي موجودة قبل الشافعي وهي المتفق عليها بين علماء المسلمين، ولم يفعل الشافعي سوى بلورتها، وتدوينها كما فعل النحاة واللغويين في قواعد اللغة العربية فهي موجودة قبلهم، وهم قاموا ببلورتها وتسطيرها حتى لا تضيع مع مرور الوقت". 

ولفت في ختام حديثه إلى أن "هجوم العلمانيين العرب على اختلاف مذاهبهم ولافتاتهم على أصول الشافعي إنما هو في الحقيقة هجوم على أصول الإسلام التي تثبت وتؤكد صلته بالحياة".