هل تتجه مالي نحو مزيد من الفوضى؟

خميس, 06/17/2021 - 09:00
علّقت فرنسا عملياتها العسكرية مع الجيش المالي بعد الانقلاب الأخير في البلاد

ربما لم يكن من المتوقع أن تشهد مالي، تلك الدولة التى اعتبرتها الدول الغربية خلال العقدين السابقين على عام 2012 نموذجاً لـ"الديمقراطيات الناشئة"، وعانت من تداعيات خطيرة على خلفية انقلاب عام 2012، انقلابين عسكريين متتاليين خلال الأشهر التسعة الأخيرة، وأن تصبح الأداة الوحيدة للتعبير عن الرأي والسيطرة على مقاليد الحكم في البلاد هي "القوة"، فتصبح المؤسسة العسكرية الفاعل الرئيسي بل وربما الوحيد في مجريات الأحداث، حيث يطرح المشهد الأمني والسياسي في مالي خلال العقد الأخير العديد من التساؤلات حول أسباب الانقلابات العسكرية المتتالية التى تتعرض لها مالي، ومآلات الاستقرار في هذه الدولة، والتداعيات التي ستفرضها الاضطرابات المتلاحقة التى تتعرض لها على الأمن والاستقرار في الدول المجاورة لها، وكذلك المسارات المستقبلية المحتملة للتطورات في مالي وخاصة عقب الانقلاب العسكري الأخير. وللبحث عن إجابات لهذه التساؤلات يمكن مناقشة عدد من القضايا كما يلى:

 

الانقلابات العسكرية والغضب الشعبي

تعرضت مالي منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960 لخمسة انقلابات عسكرية، ارتبطت فى مجملها بتدخل الجيش للاستجابة للغضب الشعبي من السياسيين، أو ما أطلقوا عليه "انقلابات تصحيحية" تنفذ إرادة الشعب وتضع البلاد على المسار الصحيح بعد الاحتجاجات الشعبية، كما أبدى قادة الانقلابات، في أحيان عديدة، مرونة بالغة في الاستجابة للمطالب الدولية والإقليمية للعودة بالبلاد إلى المسار الديمقراطي. وفى المقابل، أيدت قوى المعارضة بعض الانقلابات وأبدت استعدادها للتعاون مع قادتها العسكريين، إلا أن انقلاب مايو الأخير لم يأت كرد فعل على استياء شعبي بل جاء كأحد مظاهر الصراع بين المدنيين والعسكريين، ومحاولة كلا الطرفين الانفراد بالسلطة وتشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة.   

 

ففي عام 1991، أطاح أمادو توماني توري بموسى تراوري على وقع ثورة شعبية ضد الحكم الاستبدادي، وأطلق عليه أنصاره لقب "جندي الديمقراطية"، وقد سلّم السلطة إلى حكومة انتقالية، حيث تم انتخاب ألفا عمر كوناري رئيساً للبلاد عام 1992، وهو المنصب الذي شغله لفترتين. ثم تم انتخاب توري رئيساً في عام 2002 ومرة أخرى في عام 2007. ودعم العديد من الماليين انقلاب عام 2012 لأنهم اعتبروه مناوئاً للفساد والمحسوبية، حيث أطاح النقيب أمادو سانوجو بتوري، مؤكداً أن الجيش بحاجة إلى إزاحة السياسيين من السلطة لوقف التقدم السريع لتمرد الطوارق المدعوم من الجماعات الإرهابية.

 

وفى إطار الضغوط التى مارستها الدول المجاورة لمالي وكذلك المنظمات الإقليمية والدولية المعارضة لهذا الانقلاب وفرضها عقوبات على مالي، تخلى سانوجو عن السلطة لرئيس الجمعية الوطنية ديونكوندا تراوري، الذي أصبح الرئيس المؤقت لمالي، حتى أجريت الانتخابات في يوليو وأغسطس 2013 التى فاز فيها إبراهيم بوبكر كيتا بمنصب الرئيس.

 

وفي أغسطس 2020، تدخل الجيش مرة أخرى بعد احتجاجات شعبية دعت إلى استقالة كيتا. وقاد أعضاء تجمع القوى الوطنية M5-RFP، وهو تحالف من المجتمع المدني والزعماء الدينيين والمعارضين ويمثل حركة المعارضة الرئيسية في البلاد، الاحتجاجات ضد كيتا، وألقى باللوم عليه في الفساد والمحسوبية وتفاقم الهجمات الإرهابية في شمال ووسط مالي. وبدعم من الاحتجاجات الشعبية، أطاح عدد من القادة العسكريين بالرئيس وقوبل الجنود بالحشود المبتهجة في باماكو. وفرضت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ECOWAS) عقوبات، لكن سرعان ما رفعتها عندما نصّب القائد العسكري عاصي غويتا حكومة انتقالية.

 

وفى 24 مايو الماضي، أقدم رئيس المجلس العسكري ونائب الرئيس الانتقالي العقيد عاصمي غويتا على إقالة كل من الرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار آواني في النظام الانتقالي، وقام بالاستيلاء على السلطة والقضاء على الملامح المدنية للحكومة الانتقالية، وذلك رداً على محاولة  الرئيس تقليص عدد الأعضاء العسكريين في الحكومة الانتقالية، وتشكيل حكومة جديدة، ودون استشارة نائب الرئيس الانتقالي غويتا وحلفائه، مما اعتبره الأخير محاولة لتهميش المجلس العسكري. وفى محاولة لإضفاء ملامح الدعم الشعبي للانقلاب الأخير، دعا المجلس العسكري  قادة تجمع القوى الوطنية للمشاركة في الحكومة الجديدة، حيث لم يشارك التجمع في إجراءات الانتقال السياسي على الرغم من أنه كان في قلب انقلاب أغسطس 2020. إلا أن هذا التحرك لم يلق قبول معظم الماليين ومنظمات المجتمع المدني التى لا تجد مبرراً للإطاحة بالرئيس والحكومة الانتقالية الجديدة وأعلنت رفضها الاستيلاء على السلطة بالقوة.

 

مناهضة الوجود العسكري الفرنسي

يبدو أن نتائج الانقلاب الأخير قد توافقت مع المصالح الفرنسية، حيث تدخلت القوات الفرنسية في مالي منذ يناير 2013، وخلال ثماني سنوات لم تتمكن من تحقيق أهدافها والقضاء على الجماعات الإرهابية، بل إن الأخيرة نجحت في الانتشار في دول منطقة الساحل المختلفة وأصبحت الدول المجاورة لمالي الأكثر تأثراً بنمو جماعات غالبيتها تنتمى إلى تنظيم "القاعدة"، وأخرى أصبحت خلال العامين الأخيرين تبايع تنظيم "داعش".

 

وأمام هذا المشهد الأمني شديد التعقيد، وعلى الرغم من النجاحات التى حققتها القوات الفرنسية خلال العام الماضي، وتمكنها من قتل عدد من قادة التنظيمات الإرهابية وعلى رأسهم عبد المالك دوركدال زعيم تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، إلا أن حالة الاستنزاف التى تعرضت لها القوات الفرنسية خلال الأشهر الأخيرة دفعت المسئولين الفرنسيين للتحدث كثيراً عن تخفيض قوات بلادهم في منطقة الساحل، بل والتخطيط للانسحاب بشكل كامل في مرحلة لاحقة.

 

وعقب الانقلاب الأخير في مالي، علّقت فرنسا عملياتها العسكرية مع الجيش المالي، وفى تطور لاحق أعلن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أن عملية "برخان" التى تضم 5100 جندي فرنسي وتشمل 6 دول ستنتهي، ليصير الوجود الفرنسي جزءاً من القوة الدولية "تاكوبا" التي أطلقتها فرنسا في يوليو 2020 والتي تتكون من وحدات من دول الساحل وبعض الدول الأوروبية.

 

وعلى الجانب الآخر، طرح الانقلاب الأخير في مالي وجهة نظر ترى أن الانقلاب على الرئيس الانتقالي باه نداو جاء على خلفية حمايته للمصالح الفرنسية في البلاد، وهو ما انعكس على تشكيل الحكومة الجديدة، في حين يرفض المجلس العسكري الوجود العسكري الفرنسي، على الرغم من أن بعض المعلومات تشير إلى وجود قنوات تواصل بين رئيس المجلس عاصمي غويتا والقواعد العسكرية الفرنسية والأمريكية في الساحل الأفريقي.

 

وفى الوقت الذى خرجت مظاهرات في العاصمة المالية باماكو عقب الانقلاب الأخير تطالب بخروج القوات الفرنسية من البلاد، بدأت الدعوة تتزايد لتأسيس علاقات استراتيجية مع روسيا، على خلفية ما أشارت إليه وسائل إعلام فرنسية وتقارير حول العلاقات المتميزة  بين المجلس العسكري الجديد والأخيرة، حيث تلقى عاصمي غويتا ووزير الدفاع ساديو كامارا تدريبات عسكرية فيها، إلا أن العديد من المحللين يرون أنه من الصعوبة استبدال الوجود الفرنسي في أفريقيا بنظيره الروسي، وأن روسيا لديها نشاط محدود في مالي ودول الساحل الأفريقي الأخرى، وأن الحماسة التى ظهرت تجاه روسيا في أفريقيا تعود إلى مساعدة الروس للنظام الحاكم في سوريا ضد التدخل الأجنبي، وأن الأفارقة ينتظرون دوراً مماثلاً لروسيا في القارة.

 

أبعاد متعددة للانسحاب

يُلقي الانسحاب الفرنسي (المحتمل) من الساحل الأفريقي الضوء على العديد من الأبعاد، التي يتمثل أهمها في مدى جاهزية الجيوش الأفريقية، وخاصة الجيش المالي، للاستمرار في محاربة الجماعات الإرهابية التى طورت من قدراتها وعملياتها وزادت أعدادها، خلال السنوات الأخيرة،  فتحولت منطقة الساحل الأفريقي إلى مركز لاستيعاب الإرهابيين القادمين من دول الشرق الأوسط. وعلى الرغم من الجهود الأفريقية لتقليص مستوى التدخلات الأجنبية في القارة وتطبيق شعار "حل المشكلات الأفريقية بآليات أفريقية"، وهو ما يتوافق مع التصورات الفرنسية الأخيرة للخروج من الساحل الأفريقي، إلا أن نقص التمويل وتراجع قدرات الجيوش الوطنية يمثلان عقبتين كبيرتين أمام التقدم الأفريقي في هذا المسار.

 

ووفقاً لاتجاهات عديدة، فإن السياسة الفرنسية تجاه الأحداث في مالي تتسم بازدواجية ملحوظة، خاصة عند مقارنتها بردود الفعل الفرنسية حول ما شهدته تشاد مؤخراً من انقلاب قام به الجيش التشادي للاستيلاء على السلطة بتنصيب ابن إدريس ديبي البالغ من العمر 37 عاماً كخليفة لوالده عقب مقتل الأخير على أيدى الإرهابيين، حيث تمثل تشاد وجيشها حليفاً رئيسياً لفرنسا في حربها ضد الإرهاب في الساحل الأفريقي. فقد حضر الرئيس الفرنسي ماكرون جنازة ديبي بينما قدمت حكومته مباركتها الضمنية للاستيلاء العسكري على السلطة باسم "الاستقرار"، على حد تعبير وزير الخارجية جان إيف لودريان.

 

المسارات المستقبلية المحتملة

يطرح المشهد الأمني والسياسي في مالي عقب الانقلاب الأخير العديد من السيناريوهات التى لا تخلو من المخاوف من انزلاق هذه الدولة نحو مزيد من الفوضى وربما الانهيار من جراء اعتماد قادة المؤسسة العسكرية والساسة فيها على استخدام القوة لإحداث التغيير أو لتصحيح الأوضاع وتنفيذ أجندة الإصلاح، بعيداً عن الحوار والتفاوض بين أطراف الأزمة المالية المختلفين. ويمكن تناول أبرز تلك المسارات على النحو التالي:

 

المسار الأول، قيام العقيد عاصمي غويتا بتنفيذ وعوده التى أطلقها عقب الإطاحة بالرئيس الانتقالي، بإجراء الانتخابات المقررة في موعدها في فبراير 2022 ولكن تحت رعاية المجلس العسكري الذى يضم قادة انقلاب أغسطس 2020، وفى ظل مراقبة دولية وإقليمية معتادة. ولكن يظل التساؤل حول مدى قدرة الأطراف الخارجية على ممارسة ضغوط على المجلس العسكري وقائده من أجل استكمال هذا المسار دون غيره، وخاصة في ظل ردود الفعل "الخافتة" للقوى الخارجية والتي تراوحت بين التنديد بالانقلاب وتعليق عضوية مالي في المنظمات الإقليمية والتلويح بفرض عقوبات.

 

والمسار الثاني، تمسك قائد الانقلاب ورئيس المجلس العسكري بالسلطة وتقديمه لتبريرات لتأجيل الانتخابات أو الترشح فيها. فالانقلاب الأخير يؤكد أن المؤسسة العسكرية ستظل تدير المشهد الأمني والسياسي في البلاد، وأن المجلس العسكري لم يتخل أبداً عن السلطة للمدنيين. كما أن التعديلات الوزارية التى قام بها الرئيس المقال باه نداو واستبعاده لاثنين من العسكريين من الحكومة الجديدة كانت نتيجة تصاعد الانتقادات لبطء وتيرة الإصلاح والغضب المتزايد من الدور البارز للجيش في الحياة السياسية. لكن هذا المسار قد يُعرِّض مالي لمزيد من الضغوط والعقوبات من جانب القوى المعنية بالأمن والاستقرار في تلك المنطقة.

 

والمسار الثالث، سعى التنظيمات الإرهابية إلى استغلال تصاعد حدة التوتر في البلاد من أجل نشر الفوضى، على نحو قد يدفع قوات مجلس السلم والأمن الأفريقي إلى التدخل في مالي لاستعادة الاستقرار ومحاربة تلك التنظيمات.

 

في النهاية، تظل التطورات في مالي غير محسومة، إلا أن عوامل عدم الاستقرار لا تزال تتصدر المشهد السياسي والأمني مما يحمل تحذيرات خطيرة حول مستقبل هذه الدولة وخاصة في ظل المشكلات التى يعانى منها الدور الأفريقي في الحد من الصراعات والتهديدات الإرهابية في أجزاء واسعة من القارة الأفريقية.