تم تحويل جبريل إلى حامية أطار منتصف الستينيات، ومن طريف ما مر به أنه في صباحه الأول بأطار في فندق نادي الضباط، رأى من شرفته رجالا يحمل كل واحد منهم خنشة خاوية، فاحتار في أمرهم وتساءل فى نفسه عن الأمر ، إلا أنه لم يلبث أن رآهم بعد ذلك بقليل، عائدين وقد امتلأ وِفاض كل واحد منهم بالزاد، فقال بفطرة أهل (كيفة): لي هوم الرجاله إگيسو السوق؟( ماذا! الرجال يتسوقون للبيت؟)، ثم اكتشف لاحقا أن فى الأمر وعياً ونُضجاً ومشاركة فى تحمّل أعباء الأسرة تميز أهل أطار و تطلع أسلوب حياتهم الحضاري.
قضى جبريل أياما من أجمل أيامه في أطار، مع رفاق له وأصحاب منهم سيدينا ولد سيديا، وسيديا ولد يهيَ، وإبراهيم ولد عالي انجاي، ومحمد خونه ولد هيدالة و محمد ولد اباه(كادير) ومعاوية ولد الطائع.
فى تلك الفترة كان التجمع العسكري للرُّحل رقم 1 يتبع لحامية أطار ، وكان يرأسه ضابط كثيرا ما بعث إلى المسؤول الفرنسي عن الحامية (النقيب ادروگي)يشكو ضعف إبل التجمع ونفوق بعض الجمال. وكان النقيب الفرنسي معروفا بالصرامة، فأزاح الضابط عن التجمع وأرسل مكانه جبريل.
جاء جبريل للفِرقة المذكورة في ضواحي شنقيط، فإذا بالإبل من شدة هزالها لا تكاد تقوم وكان هذا أول الجفاف.
قال جبريل لضابطيْ صف يثق فيهما : دونكما الإبل، سيرا بها ولا تقفا إلا عند موضع فيه كلأ ومرعى، وأنا سأتبعكما بالفرقة. فلما بلغا (أماطيل)وجدا نجعة فعسكرا وعسكرت معهما الفرقة، ونالت الإبل ماشاء الله من شجر المنطقة.
بعث جبريل برسالة مشفرة إلى النقيب يخبره أن الفرقة نزلت بأماطيل، فاستقدمه النقيب إلى أطار، وحين استقبله فى مكتبه قال له: أيها الملازم المغرور لماذا ترحل بالفرقة دون إذن مني؟ فقال جبريل: سيدي النقيب، أنا ضابط ولست دُمية، ودوري أن أتعامل مع الحالات الطارئة بما أراه مناسبا، وقد وجدت الإبل معرضة للنفوق المؤكد بسبب الجفاف، وأنا بدوي النشأة، وأعرف هذه الإبل كما أعرف نفسي، لذلك فعلت ما يصلح لها شأنها، والحمد لله أنني أدركتها قبل أن تهلك والمثل يقول: دار الشدّه ما تنسكنْ!
فوجئ النقيب بهذا الجواب، وهنأه عليه وقال: لقد كنت أحتاج رجلا مثلك.
ولما صار المساء أعطاه سيارة وملأها من الذخيرة والزاد، وأرسله إلى فرقته.
طاف جبريل بتجمع الرُّحل فى كافة أنحاء موريتانيا، وكانوا يغيثون الناس، ويسعون لقضاء حوائجهم، وكان معهم طبيب وإسعافات أولية وعالجوا كل من قدروا على علاجه. وكان معهم قاض يسعى في حل النزاعات والخصومات: لقد كانوا بحق "رجال غيث" متنقلين.
لما رجع جبريل من هذه الرحلات الشاقة، تم تحويله إلى بير ام اگرين، حيث كانت الكتيبة هنالك تحت قيادة محمد خونة ولد هيدالة.
يقول جبريل إنه يذكر أول مرة تَيقّن فيها من "العين"، حيث كان في مهمة أمنية على الحدود مع كادير رحمه الله، وعندهم سيارة جيب جديدة خاصة بقائد السرية كادير.
فخرج كادير مرة بسيارته إلى خيام بدوية يريد أن يأتي لسريته ببعض الحليب، فلما كان راجعا إلى السرية قال جندي في السرية لجبريل: حضرة الملازم (اتراعي افذي الوته الجايه الي الا كيف امَّيْهَ افتبصيل تحت القمر؟ ) فلم يفهم جبريل فقال الرجل: شوف الطريقة الي تتحرك بيه عن لحجار! فلما كان في الصباح، شغّلوا جميع السيارات إلا سيارة كادير لم يشتغل محرّكُها، فما تركوا طريقة إلا وجربوها لتشغيل المحرك فلم يُفلحوا في كل ذلك، فما كان منهم إلا أن قاموا بجرها بإحدى السيارات إلى بير ام اگرين، فكانت تلك أول مرة يرى فيها جبريل العينَ رأيَ العين!
كان الجفاف قد عم حينها، ومما يذكر جبريل أنه كان مع هيدالة مرة ذاهبين في الكتيبة إلى عين بنتيلي فجرا، فلما أشرقت الشمس توقفوا للشاي، فرأى جبريل آثارا كآثار الغنم، فاستغرب من وفرتها في الجفاف، فلما أخبر هيدالة وقف على الأثر وقال: إنما هذه آثار غزلان.
فتعقبوا أثرها حتى أدركوها في موضع قريب. فصادوا منها ما قدروا عليه، وملأوا به حوض إحدى السيارات ثم قفل بها محمد ولد الشرقي رحمه الله إلى "البير"، وطاف بها على أهل البير لكل واحد منهم نصيب.
بعد اشتداد الجفاف ذلك العام، أعدت الكتيبة مخططا ضخما لمكافحة الجفاف وإسعاف الناس، وحددوا في المخطط حجم حاجتهم للعتاد والمال، وأرسلوه إلى الرئيس المختار ولد داداه.
من بير ام اگرين، تم تحويل جبريل مجددا، إلى المكتب الفني في قيادة الأركان، فلم يزل فيه حتى تقرَّر إرساله في تدريب إلى فرنسا، فبينما هو في أهبة الاستعداد، تم التراجع عن إرساله بسبب قبول مخطط الإنقاذ الذي كان قد أُرسل إلى المختار، فتم تكليف جبريل بإدارة هذا المخطط الذي كان اسمه: l’opération vivre.
ومن الذين كانوا معه في خطة الإنقاذ، أحمد ولد بله (بتفخيم اللام) المسؤول الإداري، ومحمد جلو وسيدي ولد مولاي اعل، وكان كل واحد منهما يقود وِحدة من الوحدات، وقد تم تخصيص 500 شاحنة لهذه العملية الضخمة والمتعبة.
نحدثكم في الحلقة القادمة إن شاء الله عن كواليس هذه العملية الضخمة وما تبع ذلك.