مجزرة كبكب».. دعوة للحوار على الطريقة الفرنسية
في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1917 قام القادة الفرنسيون بدعوة العلماء الإسلاميين في ربوع تشاد كافة للقائهم. كان الإعلان الرسمي يقول إن اللقاء يهدف إلى النقاش والوصول إلى حل وسط بخصوص إدارة البلاد. وبالفعل اجتمع في مدينة أَبْشة بإقليم واَداي ما يُقارب 400 عالم دين مرموق المكانة، بالإضافةً إلى العديد من الزعماء المحليين المسلمين.
لكن القادة الفرنسيين لم يجتمعوا بالعلماء المسلمين، ولم يدخل على هؤلاء العلماء إلا جنود بسواطير حادة في أياديهم. إذ لم يُردهم الفرنسيون قتلى بالبارود ولا بالسم؛ بل بالذبح بدمٍ بارد عالمًا تلو الآخر. ثم جُمعت الرؤوس المتساقطة والأجساد التي فقدت ملامحها في حفرة كبيرة في منطقة أم كامل، أحد المناطق في مدينة أَبشة. ولولا ضخامة العدد لربما طمس الفرنسيون أي أثر لمكان دفن هؤلاء العلماء. لكن المقبرة لم تزل باقية حتى اليوم.
لم يُنكر الفرنسيون آنذاك ارتكاب هذه المجزرة بل اعترفوا بها مبررين جريمتهم بأنها كانت للقضاء على الرجعية وأوكارها. عرفت تشاد هذه المجزرة باسم «مجزرة كبكب» أي مجزرة الساطور.
لكن إذا كان الفرنسيون يرونها مبررة ولا يصفونها مجزرة كبكب بالمجزرة، فهذا طبيعي لأنهم الجناة. وإن كان التشاديون يرونها مجزرةً وجريمة ضد الإنسانية، فهذا طبيعي أيضًا؛ لأنهم المجني عليهم، لكن مع من يقف القانون الدولي؟
تذكر المادة السابعة (1) (أ)، أن القتل العمد الذي يشكل جريمة ضد الإنسانية، مستندة إلى أركان محددة، من بينها: 1 – أن يقتل المتهم شخصًا أو أكثر.
2 – أن يُرتكب السلوك كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجَّه ضد سكان مدنيين.
3 – أن يعلم مرتكب الجريمة بأن السلوك جزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين، أو أن ينوي أن يكون هذا السلوك جزءًا من ذلك الهجوم.
إذًا فوفقًا لتعريف قانون المحكمة الجنائية الدولية فإن مجزرة كبكب جريمة ضد الإنسانية، ولا يتفق القانون الدولي ولا التاريخ مع الفرنسيين في قولهم إن ما قاموا به مُبَرر.
تجريف الإسلام وغرس بذور الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب
بعد وقوع «مجزرة كبكب» استولى الفرنسيون حقًا على تشاد، فقد دانت لهم السلطة الرسمية والسلطة الروحية. ولم تعد القوات الفرنسية تلقى مقاومة عسكريةً أو ثقافية في تشاد. بدأت بعض الجمرات المشتعلة تظهر من تحت رماد الجثث على يد عددٍ من المسلمين الذين رفضوا إلحاق أبنائهم بالمدارس المسيحية الفرنسية. ونشأت مجموعة من المدارس الأهلية لا يتقاضى معلموها أي أجر، فقط يفعلون ذلك للحفاظ على اللغة العربية والثقافة الإسلامية.
حين علمت فرنسا بتلك الجمرات التي قد تؤرقها مستقبلًا سكبت عليها الماء لكي تطفئها للأبد. فمن الأهالي من رضخ للإجبار وأرسل أبناءه للمدارس الفرنسية، ومنهم من رفض، ومنهم من دفع لخَدَمه المسيحيين ليدخلوا هذه المدارس على اعتبار أنهم أبناؤه.
وكخطةٍ طويلة الأمد منحت فرنسا اهتمامها الكامل للجنوب المسيحي على حساب قبائل الشمال المسلمة، فتركز 80% من المدارس التي بنتها فرنسا في الجنوب ما أتاح الفرصة لأبناء الجنوب للوصول لمراكز صنع القرار. لا يعني أن ذلك فرنسا عملت على تنوير الجنوب، لكنها ربطت التعليم بما تريده من الطلّاب. فإذا كانت تريد عمالة في مجال معين، سواء في تشاد أو في فرنسا، علّمتهم الحد الأدني المطلوب لكي يستطيعوا أداء مهمتم دون أن يؤثر على جودة المُنتج أو يزيدهم ثقافةً.
وبهذا قتلت فرنسا عصفورين بسهمٍ واحد سام؛ همّشت الشمال وأشعلت في صدورهم مرارة الشعور بالظلم والتجاهل. لذلك لم يكن مستغربًا أن تقوم الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب بعد استقلال تشاد عام 1960. وظلت تحت ويلات الحرب الأهلية 30 عامًا كاملة، ولم تنعم بالسلام إلا عام 1990. حتى أن ذلك السلام كان هشًا لم يصمد إلا ثماني سنوات فحسب، ثم انفجر الوضع في الشمال عبر ثورات داخلية لا تنتهي.