منذ سنواتٍ نظّمتْ إحدى الجامعات رحلة لطلابها -العبرة هنا بالفكرة - و أثناء الرّحلة قام أحد الطلاب بقتل بطّة ... فاستقال وزير التعليم ... وعندما سألوه عن علاقة استقالته بحادث البطة ... قال: أنا مسؤول عن نظام تعليمي أحد أهدافه أن ينتج مواطنين يحترمون حقّ الحياة لكلّ المخلوقات وبما أنّ هذا الهدف لم يتحقق فأنا المسؤول عن ذلك و لذلك أستقيل.
لو حدثت هذه القصة في بلادنا و تعلق الأمر بإنسان لا بطة ... فسيوبخ وزير التعليم مدير الجامعة ... وسيوبّخ مدير الجامعة الأستاذ ... وسيوبخ الأستاذ التلميذ ... وسيوبخ التلميذ الضحية سواء كانت إنسانا أو بطة... هذا إن لم يكن السير في الاتجاه المعاكس ممكنا...
عقليتنا الإدارية باختصار هي تحميل أسباب الفشل لمن هم تحت إمرتنا إن لم نجد حيلة لتحميلها لمن يرأسوننا لأنهم -لسوء حظنا- لم يخرجوا بعد من الخدمة ...
***
يعرف الجميع ممن لديهم علاقة بالإدارة كعلم أن فشل المؤسسات يقع بسبب سوء الإدارة لا بسبب قلة الموارد... هذا في الغالب.
إذا تعرض فريق كرة قدم لخسائر متلاحقة يطردون المُدرب ولا يبيعون اللاعبين ...
وإذا تفاقمت مشكلة وطن يعزلون الحكومة و لا يُغيّرون الشّعب. ...
و حده المسؤول في بلاد التخلف، سواء كان مديرا أو رئيساً لمجلس إدارة أو وزيراً أو رئيس دولة ... وحده يبحث عن سبب الفشل في كلّ مكان إلا في نفسه ... فهو دوماً يبحثُ عن "معليكة" يُعلّق عليها فشله الذريع.
و إذا نجح -و هذا نادر ندرة الماء العذب في فيافي تيرس زمور- اختال علينا كالطاووس معتبرا هذا النجاح نجاحه الشصي على طريقة قارون"...إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي" ... ثم يجيء بالإعلام و يملأ علينا الدنيا صخبا و هرجا... أما إذا فشل -و هو الغالب- فحتماً يكون ذلك بسبب خطأ الذين يعملون تحت إمرته... و الأفضل أن يحيل كل سيئة الى مرؤوسه السابق الذي لم يعد في الخدمة أما إذا كان مازال في الخدمة فلك قصة أخرى.
***
الذي يقرأ التقرير الذي نشرته وسائل الإعلام و ضمنته الأسئلة، التي كان من المفترض أن توجه لرئيس الجمهورية السابق، يدرك حجم الكارثة حيث أن جل الوزراء و المديرين الذين مثلوا أمام اللجنة كانوا يسيرون قطاعاتهم بوصفة "الأوامر العليا" و الأدهى أنهم يعتقدون أن في ذلك مبررا مقنعا لإخراجهم من الورطة... الشيء المحزن هو أن بعض هذه الأوامر العليا -حسب التقرير المذكور- كانت تأتى من أناس لا علاقة لهم بالدولة و لا بمؤسساتها.
***
في مقابلة له يقول رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد :
لم أسمح لأي من أبنائي بتقلد أي منصب رسمي في الدولة...
و لم أسمح لهم بالخوض في أمور السياسة...
و لم أسمح لأي منهم بعقد صفقات مالية مع مؤسسات الدولة...
و لم أسمح لزوجتي بالتدخل في شؤون الحكم...
و لم أناقش مع زوجتي أي شأن عام و لم أخبرها عن أي من مخططاتي...
و لم أسمح لأحد بإطلاق اسمي على أي شيء في ماليزيا سواء كان مدينة أو شارعا أو غير ذلك...
و عندما استقلت طواعية من رئاسة الحكومة سلمت كل الهدايا التي منحت لي الى رئاسة الوزراء....
***
أحد أسباب نجاح عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إدارة أمة كاملة هو امتلاكه الجرأة على أن يحمل نفسه المسؤولية قبل أن يلوم عمّاله و أعوانه على أي خطأ يقع!... و هو القائل: "لو أنّ دابة عثرت في العراق لسألني الله لِم لَمْ تُصلح لها الطريق يا عمر؟! ... ركزوا جيدا: هو في المدينة وهي دابة في العراق ...و لو تعثرت فهذه مسؤولية عمر قبل أن تكون مسؤولية عامله على العراق ... و بالطبع قبل أن تكون مسؤولية أبي بكر رضي الله عنهما.
***
يستحيل أن ينجح مسؤول لا يملك الجرأة و الشجاعة ليعترف أنّ أي خطأ يقع ضمن حدود مسؤولياته هو خطؤه الشخصي بالدرجة الأولى.
***
لا سبيل الى بناء دولة قابلة للحياة بدون مؤسسات قائمة على الأسس و المبادئ و التقاليد الإدارية المتعارف عليها في العالم ... على رأس هذه المؤسسات رجال و نساء لديهم ما يكفي من الجرأة و الشجاعة ليعترفوا بأخطائهم و فشلهم ثم يرتبون على ذلك ما يجب من الاستقالة و من تحمل مسؤولية نتائج المحاسبة بعد ذلك ... فالقائد الحق هو ذلك الذي يقول " غلبت أنا" و لا يقول "غلب رجالي" .... هذا باختصار و خير الكلام ما قل ودل.
د. محمد محمود سيدينا.