الرقيق الأطلسي.. ذكرى جريمة سوداء في جبين البشرية

سبت, 06/06/2020 - 21:34

تقف البشرية في كل عام وقفة للذكرى والاعتبار، وذلك لتطهير الضمير البشري من جريمة تجارة الرقيق التي مورست على مدى أربعة قرون بين سواحل المحيط الأطلسي، ذكرى مؤلمة أرقت ضمير البشرية طويلة، لما تنطوي عليه من تواطؤ يكاد يجمع البشرية في واحد من أولى مظاهر العولمة التي ظهرت منتصف القرن 15. وتناهز التقديرات العلمية لعدد الأفارقة الذين نقلتهم سفن الرقيق طيلة تلك الفترة إلى سواحل الأمريكيتين، بما بين 12 و20 مليون انسان.

أهمية هذه الوقفة لا تنبع فقط من حجم المأساة التي عاشها هؤلاء الضحايا، ومعهم أجيال من سلالاتهم التي بقيت خاضعة للرق، بل لأنها شكّلت قطب الرحى في التحوّلات السياسية والاقتصادية والجيوستراتيجية التي شهدها العالم في تلك الحقبة التي استمرت إلى غاية نهاية القرن الـ19.

كما أن هذه الحقبة تؤرخ لتجاوزات شديدة القتامة، حيث جرى تسويغ استعباد الانسان المختلف (الأسمر)، ومن ثم إقرار فكرة التفوّق العرقي، وهو ما تفرعت عنه صنوف العنصرية والكراهية التي تستمر إلى اليوم.

 

كما أن هذه التجارة الوحشية تعتبر مسؤولة عن مصير التخلّف والفقر الذي تعيشه القارة الأفريقية اليوم، ذلك أنه وبعد توقف تجارة الرقيق التي استنزفت طاقات إفريقيا البشرية، حدث انهيار شامل للنظم السياسية المحلية التي كانت تعتمد على عائدات هذه التجارة، فأصبحت القارة فريسة سهلة في يد الاستعمار الأوروبي الذي اكتسحها.

وبعد مرور أكثر من قرن على توقّف المأساة بما أقدمت عليه جل دول العالم من قرارات وقوانين تمنع الرق واستعباد الانسان، عادت الإنسانية في السنوات القليلة الماضية لتحاول تخليص ضميرها من ثقل الذنوب التي تراكمت فوقه، خاصة بعد غشاء الصمت والإخفاء الذي غطى هذه التجارة خلال القرن العشرين، فقد انبرت معاول البحث والتنقيب العلميين تبحث عن آثار المأساة، لتوثيقها بما يتيح التذكّر وأخذ العبرة.

تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي استمرت قرابة 400 عام تم فيها استرقاق أكثر من خمسة ملايين أفريقي

 

ذكرى تجارة الرقيق.. ظلال 400 عام من الاستعباد البشري

ازدهرت تجارة الرقيق عبر السواحل الأمريكية خلال مئات السنين، ورغم انحسار هذه التجارة مع نهاية القرن الـ19، فإن ستارا سميكا ظل يحجب حقيقتها، إلى أن شهد الضمير الإنساني العالمي استفاقة في السنوات الأخيرة جعلت الكثير من المراكز البحثية والجامعات تتخصص في التنقيب في هذا الجزء المظلم من التاريخ الحديث للبشرية[1].

ففي 17 كانون الأول/ديسمبر 2007، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عن تخليد يوم 25 آذار/مارس يوما دوليا لإحياء ذكرى ضحايا الرق وتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، وطلبت الجمعية العامة في القرار نفسه من الأمين العام أن يتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، لإنشاء برنامج للتوعية التثقيفية يرسخ في أذهان الأجيال القادمة فهم أسباب تجارة الرقيق وعواقبها والدروس المستفادة منها، ويعرّف بالأخطار الناتجة من العنصرية والتحيّز.

وتشكل تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي التي استمرت قرابة 400 عام، أكبر حركات الهجرة القسرية التي شهدها التاريخ، وشكل النزوح الجماعي الكثيف لأبناء القارة الأفريقية إلى مناطق عديدة في العالم أمرا لم يكن التاريخ البشري قد شهد مثيلا له من قبل، وما زال إرث تلك الهجرة جليا اليوم في الأعداد الكبيرة من السكان المتحدّرين من أصول أفريقية في جل دول القارتين الأمريكيتين[2].

ويهدف برنامج تذكر الرق الذي تديره إدارة شؤون الإعلام التابعة للأمم المتحدة، إلى تكريم ضحايا الرق وتجارة الرقيق عبر الأطلسي، وإلى التوعية بمخاطر العنصرية والتحيز.

مثّل الرقيق سلعة رائجة في أوروبا وأمريكا خصوصا أنهم كانوا أيد مجانية للعمل في الحقول

 

"مشروع 1619".. أمريكا تراجع ماضيها

بدورها صحيفة "نيويورك تايمز" الامريكية، خصصت في شهر فبراير/شباط 2020، مقالا مطولا حول هذا التاريخ، تضمن شهادات جامعيين أكدوا أن نقاط وصول سفن العبيد إلى السواحل الامريكية طالها الكثير من الإخفاء المتعمد[3].

وبينما تتحدث التقديرات عن قرابة مليون و200 ألف عملية بيع للعبيد في سواحل الولايات المتحدة بين عامي 1760 و1860، فإن عدد المواقع التاريخية المسجلة كمراكز لهذه التجارة تبقى قليلة جدا، ويشكو الباحثون من غياب سجل وطني موحد في الولايات المتحدة لمواقع بيع العبيد في المزادات العلنية.

من جانبها أطلقت مجلة "نيويورك تايمز" في صيف العام 2019، مبادرة ترمي إلى إعادة بناء الذاكرة الأمريكية تجاه العبودية، بعد مرور 400 سنة على انطلاق عملية نقل العبيد الأفارقة نحو سواحلها، وأطلقت المجلة على المبادرة اسم "مشروع 1619″، وهي السنة التي يعتبرها المؤرخون تاريخ وصول أول "شحنة" من العبيد إلى أمريكا الشمالية[4].

العمل الرئيسي للعبيد كان في معامل السكر وحصاد قصبه الذي يلزمه جهد كبير جدا

 

تجارة البشر عبر الأطلسي.. آخر فصول العبودية في التاريخ

عندما قرّرت البشرية فتح ملف قصتها المخزية مع استعباد ملايين الأفارقة على يد الأوروبيين في الأمريكيتين، فإنما ذلك لأنها تعتبر آخر الفصول الكبرى من مسلسل علاقة الانسان باستعباد أخيه الإنسان، فالرق ليس ظاهرة طارئة في تاريخ البشرية، بل يكاد التاريخ القديم يصوّره كمظهر طبيعي من مظاهر الحياة البشرية[5].

كانت تجارة الرقيق قد ظهرت أول الأمر في أوروبا بعد الحملة الصليبية الأولى بداية القرن الـ13، حيث استورد الإيطاليون آلاف العبيد الأرمن والشركس والجورجيين، وكان أغلبهم نساء يوجهن للعمل في المنازل، بينما كان الذكور يوجهون نحو معامل السكر[6].

لكن ظاهرة تجارة البشر عبر الأطلسي تعتبر الأكبر والأهم عبر التاريخ، ودامت من أواخر القرن الـ15 إلى أواخر القرن الـ19 للميلاد. وتكمن أهمية هذه الظاهرة في كونها لم تطبع تاريخ وحياة الأشخاص الذين استعبدوا مع ما ترتب عن ذلك بالنسبة لأجيالهم المتلاحقة، بل لأن هذه الظاهرة أثرت في اقتصادات العالم وتاريخ الدول على نطاق واسع[7].

وقد بدأت قصة استعباد ملايين الأفارقة، عندما حاول الأوروبيون استغلال القارة الأفريقية وثرواتها، وذلك في معرض بحثهم عن طريق نحو الهند وأسواق التوابل الشرقية، وتقول بعض الدراسات إن لحظة التحول وقعت عندما فتح المسلمون مدينة القسطنطينية (إسطنبول) منتصف القرن الـ15 للميلاد، حيث وجد الأوروبيون أنفسهم مجبرين على البحث عن طريق بديلة نحو الشرق، فأطلقوا حملاتهم الاستكشافية والتوسعية عبر العالم، مستعينين بما اكتسبوه من خبرة مسلمي الأندلس في صناعة السفن وركوب البحر، وهو ما يفسّر تفوّق الإسبان والبرتغاليين في هذه الاستكشافات الأوروبية المبكرة[8].

كان اختيار الرقيق يجري عادة عبر عدة معايير منها أن يكون ما بين 15 سنة إلى 35 كحد أقصى، وأن يكون ممتلئ الجسم غير كسيح ولا مشوه، وألا يقل طوله عن خمسة أقدام، فتلك المعايير المربِحة في الرقيق عند الوصول إلى وجهتهم. أما الأطفال فيجب ألا يزيد عددهم عن ثلث عدد النساء. وفور صعود الملأ إلى السفينة يبدأ البحارة إجراءات السلامة للوقاية من الطفيليات والأمراض التي قد يحملها هؤلاء العبيد، فحلاقة الشعر من كل مناطق الجسد أو غسله بالخل أمر لازم من أجل ضمان سلامة الطاقم والعبيد، كي لا يتساقطوا موتى قبل بيعهم[9].

انتقاء الأصحاء كان أهم شروط نجاح تجارة العبيد عبر الأطلسي

 

مباركة العبودية.. غطاء ديني وتواطؤ محلي

كانت الحقول الخصبة في الأمريكيتين -التي كانت تنتج قصب السكر والقهوة والقطن والتبغ- بحاجة لليد العاملة، وهو ما وفره الأوروبيون من مستعمراتهم الأفريقية الفقيرة، خاصة بعدما أدى استعباد قبائل الهنود الحمر المحلية في الأمريكيتين إلى القضاء على قسم كبير منهم في ما يشبه عملية الإبادة، وقد وجد هؤلاء الأوروبيون متواطئين محليين في أفريقيا سارعوا إلى تلبية حاجياتهم، مبررين ممارستهم تلك بكونها تهم فقط المجرمين وأسرى الحروب القبلية المحلية بين الأفارقة، حيث تولى عدد من الملوك الأفارقة عملية جمع العبيد واقتيادهم وبيعهم للأوروبيين قصد نقلهم إلى الأمريكيتين[10].

ويؤرخ المختصون بشكل دقيق للحظة انطلاق عملية استعباد الأوروبيين للأفارقة، في العام 1494 للميلاد، حين أصدر البابا ألكسندر السادس، معاهدة "تورديسلاس" التي أنهت الخلافات الإسبانية البرتغالية حول الأراضي المكتشفة، حيث منحت المعاهدة أرض البرازيل والغرب الأفريقي للبرتغال، وهو ما شكّل أول جسر أطلسي لنقل العبيد الأفارقة نحو أمريكا الجنوبية بهدف استغلالها اقتصاديا، وشكّلت مباركة الكنيسة الكاثوليكية لهذه الممارسة النافذة التي دخلت منها باقي الدول الأوروبية معترك التنافس حول الاتجار بالإنسان الإفريقي[11].

كما وفرت تجارة الرقيق قوة سياسية ومكانة اجتماعية وثروة للكنيسة وللدول الأوروبية ومستعمراتها في العالم الجديد، وجنى رجال الأعمال المال عن طريق تداول السلع التي تنتجها العبودية على مستوى العالم، مما سمح لهم بتأمين مواقف سياسية وتحديد مصير الأمة، كما جعلت بعض القوانين الأمريكية أبناء النساء المستعبدات عبيدا بالضرورة.

بيع العبيد أدى إلى ازدهار العالم الأطلسي، بما في ذلك أمريكا الشمالية الاستعمارية

 

شعوب أفريقيا الغربية.. ضحية الطريق إلى الهند

لقد صادف خروج الأوروبيين في حملات مكثفة نحو أفريقيا بحثا عن طريق الهند، وجود طلب متزايد على اليد العاملة في الأراضي الأمريكية المكتشفة حديثا، وهو ما يفسّر نشوء تجارة الرقيق بين ضفتي الأطلسي. وتحوّل بحث المستعمرين الأوروبيين عن الذهب والتوابل إلى استغلال مفرط للإنسان الأفريقي، حيث جرى تحويله إلى بضاعة.

وقد تصاعد التنافس بين الملوك الأفارقة في مجال تجارة العبيد، وبات هذا النشاط دافعا للحروب وسببا لنشوء أنظمة حكم محلية تقوت بفضل الأموال والأسلحة الأوروبية، فتحوّلت هذه التجارة إلى ما يشبه سباق التسلح بين القوى الأفريقية المحلية. فيما كان "الزبناء" الأوروبيون يتعاملون بوحشية مع عبيدهم، حيث يقومون بقطع آذانهم ووسم جلودهم بعلامات تجارية خاصة كدليل على امتلاكهم، بينما كان كثير من الأفارقة يقدمون على الانتحار بعد أسرهم، لما كانوا يعتقدونه وقتها من كون الرجل الأبيض يشتريهم لأنه يأكل لحوم البشر[12].

وتوجد القصة الكاملة لأول سفينة نقلت العبيد إلى السواحل الأمريكية في بعض الوثائق التاريخية، من بينها رسالة المستعمر "جون رولف" إلى "السير إدوين سانديز" من شركة فرجينيا، حيث يخبره أنه في أغسطس/آب 1619 كان قد وصل "رجل حرب هولندي" إلى فرجينيا، و"لم يجلب معه شيئا سوى عشرين شخصا من الزنوج الغريبين الذين اشتراهم المحافظ والتاجر الرئيسي للعمل في جني المحاصيل وحقول التبغ التي أقيمت حديثا"[13].

وتقول دراسة أنجزتها الباحثتان "إريا إيليوت" و"ياسمين هاغيز"، ونشرت خلاصاتها صحيفة "نيويورك تايمز"، إن بيع أجسادهم ومنتج عملهم أدى إلى ازدهار العالم الأطلسي، بما في ذلك أمريكا الشمالية الاستعمارية. وتتحدث الكاتبتان بتفصيل عن كيفية نقل العبيد وتقييدهم بالسلاسل والأغلال أثناء نقلهم عبر البحار، وتقولان إن الأطفال شكلوا حوالي 26% من تجارة العبيد، بينما كان ارتفاع درجة الحرارة والعطش والجوع والعنف سببا في وفاة حوالي 15% من المستعبدين في كل سفينة، قبل وصولهم إلى اليابسة[14].

مخطط نوم العبيد في السفن التجارية الاستعمارية كي تتسع أكبر عدد منهم

 

تجارة الرقيق.. بضاعة أنعشت موانئ القارات الأربع

بين عامي 1500 و1880 نقل ما بين 10 إلى 12 مليون إفريقي عنوة نحو الأمريكيتين، وقد توفي حوالي 15% منهم أثناء الرحلات البحرية. وقبل عام 1820م كان هناك أربعة أفارقة مستعبَدون يعبرون المحيط الأطلسي مقابل كل أوروبي، مما جعل أفريقيا المنبع الديموغرافي الأبرز لاستيطان الأمريكيتين بعد رحلات كولومبوس[15].

أما الناجون من رحلات الموت فتحولوا إلى بضاعة تباع في الأسواق، واستقر الأمر بنصفهم تقريبا في منطقة الكاريبي، ونحو 41% منهم جرى توجيههم نحو البرازيل، و5% فقط منهم نقلوا إلى أمريكا الشمالية[16].

استخدمت تجارة الرقيق كل المنافذ والموانئ البحرية للمحيط الأطلنطي من كوبنهاغن في شمال أوروبا إلى كيب تاون في أقصى جنوب إفريقيا، ومن بوسطن شمال أمريكا إلى بوينس آيرس جنوبي الساحل الغربي للقارة الأفريقية والساحل الشرقي للأمريكيتين.

ويذهب أحد أبرز الأكاديميين المتخصصين في هذا الموضوع، وهو "ديفيد آلتيس" الذي عمل أستاذا فخريا للتاريخ بجامعة إيموري الأمريكية، إلى أن دفعات من سكان الشعوب الأوروبية هاجرت إلى الأمريكيتين بين 1492 وأوائل القرن التاسع عشر، بعدما استعمر الأوروبيون الأمريكيتين، "ولكن ما يجري تجاهله في كثير من الأحيان هو أنه قبل عام 1820 ربما كان عدد الأفارقة المستعبدين المهاجرين قسرا عبر المحيط الأطلسي ثلاثة أضعاف الأوروبيين"[17].

وقد وفرت هذه الهجرة القسرية للأمريكيتين قوة عاملة حاسمة في تنميتهما الاقتصادية، وبالتالي فإن تجارة الرقيق هي جزء أساسي من تاريخ ملايين الأفارقة الذين ساعدوا في تشكيل الأمريكيتين الحاليتين ثقافيا وكذلك بالمعنى المادي.

الدعايات كانت تتحدث عن وصول العبيد "البغال" أصحاب الصحة والبنية القوية

 

سواحل الرقيق.. تنافس أوروبي فوق أجساد الأفارقة

على الرغم من أن تجارة الرقيق نحو سواحل الامريكيتين هي جريمة أوروبية بصفة عامة، إلا أن بعض الدول لها بصمات خاصة في هذا السجل، من بينها فرنسا التي حولت دولا أفريقية كاملة إلى مراكز لتجارة الرقيق، حيث طوّرت ما بدأه البرتغاليون والإسبان والهولنديون والإنجليز في القرن السابع عشر[18].

وقد دامت ممارسة فرنسا لتجارة بيع وشراء البشر السود كسلعة ما لا يقل عن 250 عاما، حيث بدأت سنة 1642 واستمرت إلى عام 1848، أي تاريخ إعلان إلغاء العبودية في الدولة الفرنسية. وكانت البداية بصدور إذن الملك لويس الثالث الذي خوّل لفرنسا شراء ملايين العبيد من مستعمراتها الأفريقية، ثم جاء الملك لويس الرابع عشر سنة 1672 ليشجع على تجارة الرقيق من خلال تقديم إعانة مالية قدرها 13 جنيها لكل "رأس زنجي" مستورد من المستعمرات، قبل أن يصدر سنة 1685، القانون الذي ينظم حياة العبيد في المستعمرات الفرنسية، ويحرم جميع الحقوق القانونية للعبد ويضفي الطابع الرسمي على وضع العبيد بوصفهم "ممتلكات منقولة"[19].

بعد إلغائها العبودية سنة 1794 إثر ثورة العبيد التي جرت في هايتي -وهي مستعمرة فرنسية في جزر الهند الغربية- أعاد نابليون العمل بالعبودية في فرنسا بعد ثماني سنوات، لكن حركة المقاومة ضد ممارسة العبودية والاتجار بالبشر تصاعدت داخل فرنسا، لتسفر عام 1848 عن إلغائها نهائيا، حيث صدر مرسوم بإلغاء العبودية في المستعمرات والممتلكات الفرنسية تحت قيادة "فيكتور شولتشر" وكيل وزارة الخارجية للمستعمرات[20].

فخلال قرنين ونصف، حولت فرنسا قرابة المليونين من العبيد الأفارقة السود الذين اقتلعوا من أراضيهم، إلى مستعمراتها الجديدة في جزر الأنتيل. وتمكن الفرنسيون بفضل تجارة العبيد في المحيط الأطلسي من رفع نسب نمو اقتصاد بلادهم، حيث تطور إنتاجهم من السكر والقهوة والكاكاو والقطن بشكل كبير في مستعمراتهم في أمريكا الشمالية.

وكانت سفن الرقيق تغادر من الموانئ الفرنسية محملة بسلع ذات جودة متواضعة كالأسلحة والنبيذ والقبعات والقلادات لمقايضتها بالعبيد. وترسوا تلك السفن في سواحل غرب إفريقيا، لتأخذ على متنها أكبر عدد ممكن من الأسرى، نحو السواحل الأمريكية، لتعود هذه السفن إلى فرنسا محملة بالسكر والكاكاو والقهوة والأحجار الكريمة.

حوّلت فرنسا العديد من الدول الأفريقية المطلة على المحيط الأطلسي إلى أسواق للعبيد، ويقدر المؤرخ وعالم الاجتماع "جيرار نوريل" أن فرنسا رحلت أكثر من 4200 بعثة عبيد تحتوي مليوني عبد إلى أراضي أول إمبراطورية استعمارية فرنسية بين عامي 1625 و1848، خاصة في جزر الأنتيل الصغرى، 42% من هؤلاء العبيد جاءوا من ساحل العاج و29% من بنين و17% من سينيجامبيا (السنغال)[21].

وقد شهدت الواجهة الغربية للقارة الأفريقية المطلة على المحيط الأطلسي أعلى درجات التنافس الأوروبي حول تجارة الرقيق، ودار هذا التنافس أساسا بين فرنسا وإنجلترا، في منطقة "السينغال-غامبيا" خلال القرن الـ18، وذلك بعد تغلبهما على هولندا في حربهما الشاملة عليها

 

حركة إلغاء الرق.. نهاية الكابوس وألم الذكرى

في بداية القرن التاسع عشر، بدأ المجتمع الدولي يعي بأنه بات من الصعوبة بمكان التسامح مع تجارة الرقيق، وبدأ الزخم الأولي للتحول عن هذه النظرة مع بدايات حركة الأنغلو-أمريكيين لإلغاء الرق، فكتبت الكتب ونشرت، ووزعت المنشورات والصحف كجزء من الجهد الرامي إلى رفع مستوى الوعي بهذه القضية، وكانت تلك البداية هي بداية واحدة من أكبر الحركات الإنسانية على الإطلاق، واضطلع عدد من السود المنخرطين في قضية إلغاء الرق بدور رئيسي في هذه الحركة[23].

بداية النهاية في قصة رقيق الأطلسي كانت عندما شرعت بعض الولايات الأمريكية، ابتداء بولاية "فيرمونت" في عام 1777، بإصدار قوانين تجرم الرق والاتجار بالرقيق قبل التشريع الاتحادي بفترة طويلة، وزاد الجهد العالمي مع توقيع عدة دول على المعاهدات الدولية بهذا الشأن.

وبحلول عام 1807، كانت بريطانيا العظمى والولايات المتحدة كلتاهما قد ألغتا تجارة الرقيق عبر الأطلسي، وبعد عقود عدة أنهى قانون إلغاء الرق لعام 1833 العبودية في كندا وجزر الهند الغربية البريطانية ورأس الرجاء الصالح، في حين وقع قانون إلغاء الرق الهندي في عام 1843.

وألغي الرق في فرنسا في عام 1848، كما ألغي في الأرجنتين في عام 1853، وألغي كذلك في المستعمرات الهولندية وفي الولايات المتحدة في عام 1863، ثم في البرازيل في عام 1888[24]