
استمرت الرحلة يوما كاملا ، وفي حدود الساعة التاسعة ليلا وصلنا العاصمة السنغالية دكار، وفي وسطها توقفت بنا السيارة أمام أحد الفنادق فنزل منها الوسيط (العميل) ثم دخل الفندق ، وبعد قليل كان واقفا في مدخله يتحدث مع شخص آخر قدمه لنا لاحقا باسم (فريد) ، وأنه ينتظرنا بسيارة ليقلنا إلى غينيا بيساو حيث يوجد في عاصمتها مكتب للبوليساريو سيتولى إعداد وثائق السفر والتذاكر لنا لنستقل الطائرة إلى الجزائر.
بعد أن أكمل حديثه مع (فريد) ، عاد إلى مقعده في السيارة وطلب من سائقها باللهجة الإفريقية (ولاف) أن يتقدم قليلا فامتثل للأمر، وكان كلما تقدم طلب منه تغيير الاتجاه حتى كاد ينفجر من الضجر لكثرة ما طلب منه الالتفاف يمينا ويسارا إلى أن توقف بنا في النهاية أمام مبنى بدا واضحا أنه مدرسة فطلب منا الوسيط أن ننزل ونتبعه ثم صعد بنا سلما ضيقا ومظلما حتى وصل إلى باب صغير في الطابق الثاني ، وبعد أن دقه عدة مرات فتحت لنا إحدى سيدتين كانتا توجدان بداخله ، عرفنا فيما بعد أنهما قدمتا من موريتانيا قبلنا بأيام ، وأن الغرفة الصغيرة التي سنقيم معهما فيها تعود لأحد الطلاب الموريتانيين ، وأنه أعارهما إياها حتى يعود من العطلة الفصلية التي لم يبق على نهايتها سوى يومين .
كانت مساحة تلك الغرفة في أحسن تقدير لا تتعدى ستة أمتار مربعة ، بها سريران صغيران يفصل بينهما حصير بالي من البلاستيك ، وكان علينا نحن الخمسة بالإضافة إلى السيدتين أن نكدس أنفسنا مثل علب السردين في تلك المساحة الضيقة ، وأن نتحمل لسعات البعوض طيلة تلك الليلة ، غير أننا كنا نعزي أنفسنا بان هذا الوضع لن يستمر أكثر من ليلة ، لأن الوسيط سبق وان أخبرنا بأن (فريد) جاء خصيصا بالسيارة من غينيا بيساو ليصحبنا معه وقت وصولنا ، لكن ولسوء الحظ عرفنا في الصباح أن إقامتنا في تلك الظروف البائسة ستطول لأنه علينا الحصول على وثائق عبور من السفارة الغينية وهو أمر يتطلب عدة أيام ، والمفاجأة الأكبر كانت حين علمنا أيضا أن من كان سيصحبنا في سيارته إلى غينيا بيساو عاد أدراجه في الليلة نفسها لأساب أمنية حسب زعم وسيطنا (ماء العينين ولد الزمراكي) ، مدعيا أنه سيعود لنا حين نحصل على أوراق العبور المطلوبة .
في مساء اليوم الثالث من إقامتنا في ذلك القفص (الغرفة) الذي ينقصنا فيه كل شيء إلا لسعات البعوض ، عاد إلينا الوسيط الذي لم يكن يجلس معنا إلا قليلا ، وأخبرنا بأننا سننتقل إلى مكان آخر حتى لا يرصد وجودنا من طرف الأمن السنغالي والذي – كما قال – إن اعتقلنا سيسلمنا للمخابرات المغربية كما حدث مع مجموعة سبقتنا وتم نقلهم بالطائرة مباشرة إلى الرباط ولم يسمع عنهم أي خبر بعدها ، وقد اكتشفنا فيما بعد أن هذا الكلام كله هراء ، وإنما فبرك هذه المسرحية للتغطية على أمرين أحدهما تأكدنا منه ، وهو أنه تسلم مبالغ مالية لتغطية مصاريف إقامتنا ، ولا يريد صرفها لذلك حشرنا في تلك الغرفة البائسة ، وقد علم أن الطالب الموريتاني الذي يسكنها قد عاد من عطلته ، وبالتالي لم يعد من الممكن بقاؤنا فيها ، أما الأمر الثاني فهناك قرائن واستنتاجات تدل على قوته وإن كنا لم نتأكد منه مائة بالمائة ، وهو أنه ربما كان يفكر في بيعنا من جديد ، وسنأتي على تلك القرائن والاستنتاجات لاحقا .
ولأن بعضنا أحس بالخوف من التهديد "الأمني" المزعوم من المخابرات المغربية ، ولأنه ليس في تلك الغرفة البائسة ما يدعونا للبكاء على مغادرتها ، فقد كنا متحمسين لفكرة الانتقال إلى أي مكان ، وسرنا خلف "دليلنا" والدنيا لا تكاد تسعنا من الفرحة ، لكن تلك الفرحة لم تدم طويلا بعد أن وصل بنا إلى دار قال إنها لأحد أقاربه ، إذ لم نكمل السلام حتى عرفنا أنه غير مرحب بنا فما كدنا نجلس في احدى الغرف حتى نادى رب البيت على صاحبنا وانزوى به في ممر امام الغرفة حيث نجلس ودار بينهما حديث خافت استطعت ان اسمع صاحبنا وهو يقول انهم لن يمكثوا أكثر من ليلتين.
وبعد أن اكملا حديثهما عاد الينا ليخبرنا بانه خارج وسيعود الينا قبل ان نكمل شرب الشاي ، وبالفعل لم يغب طويلا ثم طلب منا ان نرافقه في رحلة بحث جديدة عن مكان نأوي إليه وقد كان موفقا هذه المرة حيث انتقل بنا الى دار أحد أبناء العائلة الموريتانية المشهورة (أهل حرمه) والذي كان يومها يعمل ممثلا لمنظمة العالم الاسلامي في دكار وعرفنا خلال مقامنا معه أنه متعاطف مع البوليساريو فقد أطلعنا على مسودة كتاب يعكف على تأليفه بعنوان « الإسلام طريقنا إلى فلسطين » وخصص منه فصلا للحديث عن قضية الصحراء .
خلال الايام الثلاثة التي قضيناها في تلك الدار ظل صاحبها يبالغ في إكرامنا حتى كدنا ننسى أننا على سفر إلى أن حانت لحظة الهروب من المجهول.
يتواصل..
نقلا عن موقع السفير