الأستاذ بمبا آدما يكتب : المقامة الأمريكية

أربعاء, 08/08/2018 - 14:27

حدَّث حفيدي النَّجيبْ، عن جدِّه الذي هو منكم قريبْ، قال: وفي إحدى أسفاري، أظنُّها إلى أمريكا أو كوسْتاريكا، يا ما كان أطْوَلَها من رحلة! جلسنا في الطَّائرة حتى سَئمْنا، ونِمْنا حتى النَّومُ سَئمْ منَّا، تحدَّثنا حتى الكلام نَفَدْ، والفكر فقدْ.. جلسنا حتى ى ى ى ى ى.

قال جدُّنا: قرأتُ الصُّحف حتى صفحات الوفياتْ، وإعلانات بيْع الهونْدا والفِياتْ.. راجعتُ محفوظاتي من المتون والدَّواوين والألفيَّاتْ، أنشدتُ أشعار الحولياتْ، وشاهدتُ مائة فيلم أكشونْ، وكرتونْ، ومسلسلات هوليوودْ تومْ وجيرِيْ، وأفلام نوليوودْ نيجيرِيْ، ولعبتُ عشرات الغيماتْ، حتى البطاريَّة في الموبايْل ماتْ. كلُّ ذلك والطَّائرة مثل تمثالْ لا يبرح مكانَه.

قال الرَّاوي:
فلمَّا أعياني أمر الطَّائرة، وضربتُ أخماسًا في أسداس، وصرتُ مثل أطرشٍ في قداس، قلتُ لنفسي: دعنا نسأل إحدى المضيفاتْ؛ ليزول عنَّا الشَّكُّ والمخافاتْ.
سألتُ إحداهنَّ:
أيَّتها الفاتنة الطَّائرة بلا جناحْ، عندي مشكلةٌ فكَّرتُ فيها بلا حلٍّ ونجاحْ: قولي لي أ طائرتُكم ساكنةٌ أم متحرِّكة؟ لأنَّني أراها في مكانها لازمَةْ، وأنَّها ليست على المسير عازمَةْ.. أما زلنا في كوكب الأرض أمْ نفَذْنا إلى درب التَّبانةْ؟ وهل محرِّكات الطائرة تعبانَةْ؟ وهل سيِّدك القبطان صاحْ، أم هو الآن في كرسيِّه طاحْ، مثل سيادة رئيسنا في الاجتماعْ، يملأ شخيرُهُ القاعة والأسماعْ؟ بصراحة، أخاف أن تنفدَ الوقودْ والأكسجينْ، ونحن هنا كَسَجينْ.

نظرت البنتُ باستغراب، قالت:
يا أيُّها الشَّيخ ذو العمامةْ، ألا ترَوْنَ من النَّافذة الغمامةْ؟ أمْ على نظارتكم ترابٌ وقُمَامةْ؟ نحن ما زلنا في نصف الطَّريقْ، والصَّبر بمثلكم يليقْ. الطَّائرة بأحسن حالْ، وهي تشقُّ مَوْج السُّحب كالجبالْ، فَطِبْ نفسًا وبالْ، فجناح الطَّائرة ليس مكسورْ، والكابتنْ مفتوح الذِّهن والجفونْ، وليس مضمومَ العيونْ. دعني أصبُّ لكم من الإبريقْ، شيئًا من الشَّاي السِّيلاني العريقْ، وإنْ شئتم قليلاً من الويسكي العتيقْ..

قال جدُّنا: قلتُ يا ابنتي العزيزةْ، أأنت مازحة، أمْ أنَّ عقلك عنك نازحَة؟ ما بالُ شيخٍ مُعمَّم ووِيسْكي؟!
قالت: يا شيخنا هذه مهنتي.. لقد سقَيْتُها كثيرين مثلك.. هنا الكلُّ أحرار، اشربْها بلا حرج و لا أضرار.

قال الرَّاوي: وهنا غضب جدُّنا غضبة بَمْبريَّة، وبدأ يملأ الطَّائرة بألفاظٍ يورْبَوِيَّة، وقيل بربريَّة.. هدَّد جدُّنا بفتح الطَّائرة والنُّزول.

قالت: يا أيُّها الشَّيخ هل عقلُك من الرَّأس طارْ، أم هو مثل قطارْ، خرج عن السِّكة والإطارْ؟ هل معك باراشوطْ، أم في جسمك كاوْشوطْ؟ أو تظنُّ نفسك سوبرْمانْ، أم فيك طَيشُ الغلمانْ؟!
كان جدُّنا يتَّجه نحو باب الطَّائرة..

قال جدُّنا، وهنا صاحتِ البنتُ ووَلْوَلَتْ، وأقبلتْ ووَلَّتْ. قالتْ: يا ناسُ أدْرِكُوا الشَّيخ الإرهابي، قبل أن يفجِّر الطَّائرة، قوموا لا تنامُوا، أَوْثِقوا الشَّيخ وأرسلوه إلى غُوانْتَنامو.

قال جدُّنا، قلتُ لها يا بنت الأونْكلْ سامْ، إنَّ عقلي هادئٌ وصافْ، ليس بي شيءٌ ممَّا قلتِ من الأوصافْ، فالْزَمي يا ابنتي الإنصافْ، فلستِ موظَّفة عند أوباما، ولا خبيرة عسكريَّة في مكتب حاكم ألاباما. ألم تقولي إنَّ الجميع هنا أحرارْ، له كامل الخيارْ، يعملُ ما يشاءْ، إنْ شاءَ ثَغا مثل الشَّاءْ؟! إذنْ، دعيني أفتَح الطائرة، وأخرج إلى حيث أشاء.

قالت: اعلمْ أيُّها الشَّيخ إنَّ الفِريدُومْ، على الفرد لا يدُومْ. إنَّما له حدودْ، وحوله خطوطٌ وسدُودْ.. تنتهي حريَّتك عند مبدأ حريَّة غيركْ، فافْهَم يا شيخ، الآن فتْحُ الطائرة، جوازٌ بنا جميعًا إلى الآخرة.

قال جدُّنا: هاهاها.. يا ابنتي الآن جئتِ بالحقِّ، إنَّما أردتُ أن تفهمي أنتِ.. هذه حقيقةٌ عندنا معلومة، نحن في الحريَّة مثل قومٍ استهمُّوا على سفينة...