استئناف العلاقات المغربية-جنوب الإفريقية: البراغماتية بين التنافس والتكامل

خميس, 02/08/2018 - 14:11

يُعتَبَر كل من المغرب وجنوب إفريقيا في الوقت الراهن من الدول المحورية على مستوى القارة الإفريقية، في عصر يشكِّل فيه التكامل الإقليمي حجر الزاوية في المشاركة العالمية الكاملة، والتنافسية كقاطرة للتنمية الإفريقية. فالمغرب وجنوب إفريقيا يشكِّلان قطبين مهمين للاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية في شمال وجنوب القارة الإفريقية.

 

إلا أن الخلافات الأيديولوجية التي طبعت علاقة البلدين لعقود تحول دون تحقيق ذلك، وتتمثل تلك الخلافات أساسًا في الروابط القائمة بين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا) مع جبهة البوليساريو التي تنازع المغرب في إقليم الصحراء، هذا فضلًا عن العلاقة الوثيقة التي تربط الجزائر وبريتوريا؛ والفجوة الواضحة من حيث المصالح والتصورات القائمة بين شمال الصحراء وجنوبها. حيث إن النزاع في "الصحراء الغربية" كان -ولا يزال- يمثِّل الفجوة الكبرى في الوحدة الإفريقية، كما هو الشأن بالنسبة للوحدة المغاربية، فضلًا عن الفجوة بين إفريقيا الناطقة بالإنجليزية وإفريقيا الفرانكفونية.

 

اليوم، وبعد قطيعة امتدت لعقود بين المملكة المغربية وجمهورية جنوب إفريقيا، يتوجه البلدان نحو إجراء نوع من المصالحة؛ حيث قرر الملك، محمد السادس، ورئيس جنوب إفريقيا، جاكوب زوما، في 29 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، تنحية خلافاتهما جانبًا واستئناف العلاقة بين البلدين، والرقي بإطار التمثيلية الدبلوماسية من خلال تعيين سفيرين كاملي السلطة بكلٍّ من الرباط وبريتوريا من أجل توطيد العلاقة بين البلدين والعمل سويًّا على تحقيق مستقبل واعد.

 

جاء هذا القرار بعد استقبال الملك، محمد السادس، للرئيس جنوب الإفريقي، جاكوب زوما، في أبيدجان عاصمة كوت ديفوار على هامش مشاركتيهما في أعمال القمة الخامسة المشتركة للاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي.

 

ويأتي ذلك بعد انضمام المملكة بداية العام الماضي لمنظمة الاتحاد الإفريقي، بعد أن انسحبت من منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي حاليًّا) قبل 32 عامًا احتجاجًا على اعتراف المنظمة وقبولها لعضوية "الجمهورية الصحراوية" التي تطالب باستفتاء تقرير المصير في إقليم الصحراء، في حين يقترح المغرب حُكمًا ذاتيًّا موسعًا تحت سيادته.

 

البلدان يتوفران اليوم على إمكانيات كبيرة لتعزيز تعاونهما، وكل الفرص متاحة أكثر من أي وقت مضى لتقوية الشراكة السياسية والاقتصادية وتجويد العلاقات في العديد من القطاعات الحيوية، ومع أن الشراكة المحتملة بين البلدين تطبعها منافسة حادة إلا أنها تتيح في الآن ذاته الكثير من التكامل الذي سيكون في صالح القارة الإفريقية قارة المستقبل.

 

إن أولى بوادر هذا التعاون تجسدت عندما خصَّ وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي المغربي نظيرته جنوب الإفريقية، التي زارت المغرب لأول مرة منذ استئناف العلاقات بين البلدين، باستقبال خاص، وذلك على هامش أشغال المؤتمر الوزاري من أجل أجندة إفريقية حول الهجرة، وبمشاركة حوالي عشرين وزيرًا ومسؤولًا حكوميًّا إفريقيًّا، الذي انعقد بالرباط، في 9 يناير/كانون الثاني 2018، الشيء الذي من شأنه أن يشكِّل خطوة مهمة في طريق إيجاد حل لنزاع الصحراء موضع الخلاف الرئيسي بين البلدين. كل هذه المعطيات تدفعنا لطرح مجموعة من التساؤلات حول تاريخ العلاقات بين المغرب وجنوب إفريقيا: ما أسباب استئناف هذه العلاقات ودوافعه؟ وما الاعتبارات التي دفعت الطرفين إلى تخطي خلافاتهما؟ وما تداعيات هذا التقارب على نزاع الصحراء؟ وأخيرًا، ما آفاق ومجالات التعاون المتاحة بين البلدين؟

 

العلاقات بين الرباط وبريتوريا: البرود المزمن

يرجع تاريخ العلاقات بين البلدين إلى ستينات القرن الماضي حين زار الزعيم جنوب الإفريقي، نيلسون مانديلا، المغرب، سنة 1962، والتقى بالوزير المكلَّف بالشؤون الإفريقية آنذاك، الدكتور عبد الكريم الخطيب، حيث طلب منه دعمه بالمال والسلاح وتدريب جنود الجناح المسلح لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي في كفاحه ضد نظام الفصل العنصري (الأبارتيد) وهو ما استجاب له المغرب. ولهذه الأسباب، شعر مانديلا، بعد الإفراج عنه (في سنة 1990)، أنه من الضروري زيارة المغرب من أجل شكر المغاربة، وفي أعقاب ذلك تقررت إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين.

 

لكن منذ عام 2000، شهدت العلاقات بين البلدين برودًا لافتًا وذلك راجع لموقف بريتوريا المتسم بالغموض إزاء قضية الصحراء، الغموض الذي ترجم الاختلاف في المواقف بين صقور وحمائم حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم بجنوب إفريقيا، والذي حسم التزام حكومة بريتوريا بالتمسك بموقفها الأيديولوجي الثوري القاضي بالاعتراف بـ “الجمهورية الصحراوية".

 

ورغم الزيارة التي قام بها الملك محمد السادس إلى هذا البلد، في سبتمبر/أيلول 2002، للمشاركة في مؤتمر "القمة العالمية للتنمية المستدامة"، واللقاء الذي جمع الملك مع الرئيس جنوب الإفريقي السابق، ثابو مبيكي، على هامش المؤتمر، فقد كان من المفروض أن يعطي زخمًا في العلاقات الثنائية بين البلدين؛ وهو أمر ظل دون المستوى المطلوب.

 

وقد بقي الاتصال قائمًا من طرف السفارة المغربية في بريتوريا بغية تليين الموقف المعلن من طرف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي تجاه قضية الصحراء حتى تتمكن بريتوريا على الأقل من تأكيد دعمها للجهود المبذولة في إطار الأمم المتحدة لإيجاد حل سياسي لهذا الصراع. من جهة أخرى، أفصح الرئيس، مبيكي، بعد شهر من تنصيبه لولاية رئاسية ثانية في خطاب له أمام البرلمان، في مايو/أيار 2004، عن أن المغرب من بين البلدان التي يعتزم إقامة روابط تعاون معها.

 

في ظل هذا المناخ، وافقت سلطات جنوب إفريقيا على إنشاء قنصلية فخرية للمملكة في كيب تاون؛ وقد تم التوقيع بالأحرف الأولى في بريتوريا على اتفاقية بشأن الازدواج الضريبي؛ وكان من المفترض أن يزور وفد جنوب إفريقي -عن قطاعي التجارة والصناعة- المغرب لاستكشاف إمكانيات الشراكة بين البلدين، إلى أن جاء إعلان بريتوريا، في سبتمبر/أيلول 2004، عن قرارها بالاعتراف بـ"الجمهورية الصحراوية" وإقامة علاقات دبلوماسية رسمية معها، وهو القرار الذي اعتبره المغرب آنذاك غير مفهوم؛ ويخالف الاتجاه الدولي الذي يدعم عملية التسوية التي تقودها منظمة الأمم المتحدة لحل النزاع، الامر الذي دفع المغرب على إثر ذلك إلى سحب سفيره من العاصمة بريتوريا.

 

وفي الواقع، فقد حدثت مجموعة من الأحداث المهمة التي قلبت الوضع رأسًا على عقب، منها: زيادة نفوذ نكوسازانا دلاميني-زوما(1) في هيئات حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بمناسبة الانتخابات التي جرت في أبريل/نيسان 2004، والتي تُعتبر زعيمة المعسكر المؤيد لجبهة البوليساريو، والتي استغلت "الأضرار الجانبية" التي سبَّبتها المنافسة الشرسة مع المغرب حول تنظيم كاس العالم 2010 والاستقالة المفاجئة للمبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة للصحراء، جيمس بيكر، في يونيو/حزيران 2004، الشيء الذي دفع الرئيس مبيكي إلى إقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع "الجمهورية الصحراوية"(2).

 

ومنذ تلك الفترة، اتخذت العلاقات بين البلدين مسارات أخرى وصلت إلى شبه القطيعة، بل أكثر من ذلك كانت بريتوريا تستثمر في معاداة مصالح المغرب على مستوى القارة الإفريقية وفي المحافل الدولية؛ حيث إنه منذ سنة 2004 تموقعت جنوب إفريقيا في الصف الأول في هذا الصراع في المنتديات الدولية عكس الدول الإفريقية الأخرى التي اكتفت باعتراف شكلي بـ “الجمهورية الصحراوية" دون أن تجعل منها قضية ذات أهمية بالنسبة لها، كما أكد آخر سفير للرباط في بريتوريا في عرض له حول العلاقات المغربية-جنوب الإفريقية سنة 2012(3).

 

ظلت قضية الصحراء الغربية موضعَ الخلاف الأساسي بين المغرب وجنوب إفريقيا، هذه القضية التي كانت لوقت طويل محددًا رئيسيًّا لتوجهات السياسة الخارجية للمملكة ودفعت المغرب للانسحاب من منظمة الوحدة الإفريقية وقطع علاقاته مع مجموعة من البلدان في إفريقيا وأميركا اللاتينية. 

 

عودة المغرب للاتحاد الإفريقي: بداية إذابة الجليد

ما فتئت قضية الصحراء تشكِّل عقبة أمام دخول المغرب في شراكات جديدة مع الدول التي تقف في وجه وحدته الترابية، لكن الواقع اختلف الآن خصوصًا بعد قبوله الجلوس إلى جانب "البوليساريو" بعد أن رفض ذلك لأكثر من 30 عامًا داخل منظمة الاتحاد الإفريقي، وهو ما يؤكد إصرار المملكة على المضي قدمًا في نهجها الجديد بترك سياسة المقعد الفارغ، خاصة على مستوى الملتقيات الإفريقية، وقد حاول المغرب التعامل بواقعية مع المعادلة الجديدة.

 

وكان المغرب قد عاد إلى المنظمة الإفريقية رسميًّا، نهاية يناير/كانون الثاني 2017، بعد انسحابه منها عام 1984 عندما كانت حينها تسمى "منظمة الوحدة الإفريقية" احتجاجًا على قبولها عضوية "الجمهورية الصحراوية" التي أعلنتها جبهة البوليساريو من جانب واحد عام 1976، ويرفض المغرب الاعتراف بها. وتطالب البوليساريو بتنظيم استفتاء لتقرير المصير في إقليم الصحراء الغربية لكن المغرب يرفض هذا الأمر، ويقترح بدلًا من ذلك حكمًا ذاتيًّا تحت السيادة المغربية كحل نهائي للنزاع.

 

وكان مصدر حكومي مغربي صرَّح للصحافة الفرنسية بأن النقاش الدائر حول حضور المغرب إلى جانب جبهة البوليساريو في الملتقيات القارية "في غير محله" لأن "الحضور في اجتماع متعدد الأطراف لا يعني أبدًا اعترافًا بـ"الجمهورية الصحراوية"، على الرغم من أن جنوب إفريقيا كانت من المعارضين لعودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي حيث قال حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم بجنوب إفريقيا في بيان له منشور على موقعه الرسمي: إن قرار الاتحاد الإفريقي بقبول عودة المغرب أمر مؤسف، منتقدًا المصادقة على طلب الرباط نيل عضوية الاتحاد "رغم احتلالها لأراضي الصحراء الغربية". فبالنسبة للحزب الحاكم بجنوب إفريقيا في بيان نشره في موقعه الرسمي فإن قرار الاتحاد الإفريقي انتكاسة واضحة لقضية الشعب الصحراوي ومطالبه بتقرير مصيره واستقلال الصحراء الغربية (4). وقد نصَّ بيان على أن هذا لا يعني أن جنوب إفريقيا ينبغي أن تعزل المغرب (5).

 

لذلك، فقد رأت جنوب إفريقيا أن عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي فرصة للعمل المشترك من داخل المؤسسات، ويمكن لهذا العمل أن يتعزز أكثر على مستوى العلاقات الثنائية مستقبلًا.

 

وقد أيدت 39 دولة من أصل 54 عودة المغرب إلى الاتحاد، بعد حملة دبلوماسية قامت بها الرباط وامتدت لشهور(6)؛ حيث شكَّل انضمام المغرب إلى مؤسسة الاتحاد الإفريقي ومصادقته على ميثاقها المؤسس، وكذلك الخطاب الذي ألقاه الملك محمد السادس، في قمة أديس أبابا، وقال فيه: "إن المغرب لا يريد التفرقة بين بلدان المنظمة وإنما يسعى للوحدة"، إشارات تلقتها جنوب إفريقيا بشكل إيجابي حيث قررت التفاعل معها مما شكَّل مرحلة جديدة وبداية لإذابة الجليد في العلاقة التي طبعها البرود(7) لوقت طويل بين البلدين وتطبيع علاقاتهما الدبلوماسية المجمدة منذ عام 2004.

 

لذلك كان موقف الرئيس جنوب الإفريقي زوما واضحًا حين أكد أن المغرب دولة إفريقية وتحتاج جنوب إفريقيا إلى إقامة علاقات دبلوماسية معها (8).

 

لذلك، رأت بريتوريا أن عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي يشكِّل فرصة للعمل المشترك من داخل المؤسسات، ويمكن لهذا العمل أن يتعزز أكثر على مستوى العلاقات الثنائية مستقبلًا. وهو ما ترجمه اللقاء بين الملك محمد السادس ورئيس جنوب إفريقيا، جاكوب زوما، على هامش قمة الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي، التي عُقدت بأبيدجان في ساحل العاج، وأُعلن خلالها استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وجنوب إفريقيا، اللقاء الذي تم الإعداد له قبل شهرين وامتد لساعتين من الزمن وكان أقل أيديولوجية مقارنة مع سلفه تابو مبيكي الذي ألقى بكل ثقله للاعتراف بـ"الجمهورية الصحراوية"، فقد أَنْصَتَ الرئيس زوما للملك بإمعان وهو يشرح له موقف المغرب، قبل أن يستدرك بأنه لم يكن مُلمًّا بجميع عناصر الملف، وحسب مجلة جون أفريك الفرنسية "فإن الطرف جنوب الإفريقي قد وعد خلال اللقاء بأنه لن يُظهِر بشكل منهجي موقفًا معاديًا للمصالح المغربية في الاتحاد الإفريقي أو في الأمم المتحدة"(9).

 

في هذا الصدد، ينبغي الإشارة إلى أن كل ذلك لا يعني بالضرورة نهاية الخلاف بين البلدين أو مؤشرًا لسحب جنوب إفريقيا لاعترافها بـ “الجمهورية الصحراوية"، وإنما ينطوي على مؤشرات جدية وإيجابية لإمكانية بناء وتوطيد علاقاتهما في الأفق القريب.

 

لذلك، فإن المغرب يرى أن البلدين يجب أن يُعيدا علاقاتهما الدبلوماسية رغم اختلاف وجهات النظر حول قضية الصحراء (10).

 

استئناف العلاقات: البراغماتية بين التنافس والتكامل

من الواضح أن المغرب قد وضع مواقف بلدان، مثل: إثيوبيا، ونيجيريا، وأنغولا، وجنوب إفريقيا، تجاه ملف الصحراء جانبًا وأعطى الأولوية للعلاقات الاقتصادية، ضمن علاقات رابح-رابح؛ حيث إنه قبل أن يعيد علاقاته مع جنوب إفريقيا، كان قد أعاد ربط قنوات التواصل الدبلوماسي والاقتصادي أيضًا مع نيجيريا وإثيوبيا، وكلها بلدان وظَّف المغرب معها الورقة الاقتصادية في أفق إصلاح العلاقات السياسية وتليين مواقفها على المدى المتوسط تجاه قضية الصحراء، وذلك ضمن عقيدة سياسية بدأت تؤطِّر وتطبع السياسة الخارجية المغربية في السنوات الأخيرة، والتي تعتبر أن المواقف السياسية تأتي بعد تحقق المكتسبات والمصالح الاقتصادية. فالدينامية الاقتصادية في إفريقيا هي التي ستسمح بالتقارب السياسي وقد تُغيِّر النتائج بطريقة أعمق وأكثر شمولًا.

 

حيث إن التقارب مع هذه البلدان التي في معظمها تساند طرح "جبهة البوليساريو" يرى فيه مراقبون مكاسب للسياسة الإفريقية الجديدة التي ينتهجها المغرب، فقد قام المغرب بمراجعة لمحصِّلة نتائج سياساته الخارجية السابقة، والتي اتسمت بالسلبية في التعامل مع القضايا الشائكة، والاعتماد على ردود الفعل بدل المبادرة، والانتظار، واللعب على الزمن بدل العمل المتراكم والمستمر لحل المشاكل. وهي محصلة سلبية لم تأتِ بنتيجة تُذكَر، وزادت من عزلة المغرب خاصة على المستوى القاري (11).

 

لذلك، فمنذ 2013 تقريبًا، أحدث المغرب اختراقات غير مسبوقة في معسكر الدول الحليفة تاريخيًّا للجزائر (المعسكر الأنجلوفوني) وضمنها أنغولا ونيجيريا ورواندا وإثيوبيا، بيد أن وصول حملته الدبلوماسية إلى بريتوريا قد يكون أكبر اختراق على الإطلاق باعتبارها كانت تعد أقوى قلاع المؤيدين لجبهة بوليساريو بعد الجزائر التي تحتضن الجبهة على أراضيها وتدعمها بالمال والسلاح وتعتبر طرفًا غير مباشر في النزاع.

 

في ظل السياسة الإفريقية الجديدة التي بدأ المغرب ينتهجها منذ سنوات قليلة، يُرجَّح أن تشهد العلاقات تطورًا نوعيًّا؛ إذ إن جنوب إفريقيا نفسها، كقوة إقليمية كبيرة، باتت مقتنعة -كما يقول مراقبون في بريتوريا- بأنها لا يمكنها تجاهل دور المغرب المتنامي في إفريقيا، ففي عامي 2015-2016، بلغت استثمارات المغرب في القارة الإفريقية 8 مليارات دولار، وذلك بحسب النسخة 16 من التقرير الدي صدر عن البنك الإفريقي للتنمية في اجتماعه السنوي 52 عن "الآفاق الاقتصادية في إفريقيا"، الصادر سنة 2017، والذي تم عقده في أحمد أباد بالهند(12).

 

فبعد ثلاثة عقود من القطيعة وسياسة الكرسي الفارغ، بدا دور المغرب يتنامى بشكل ملحوظ كقوة اقتصادية في القارة الإفريقية، ويمكن رصد ملامح هذا الدور (المغربي) في مئات الاتفاقيات الموقَّعة مع دول إفريقية، ومن أبرزها اتفاقيةٌ لإقامة مشروع أنبوب غاز استراتيجي يربط نيجيريا في غرب إفريقيا بالمغرب على أبواب أوروبا، واتفاقية شراكة ضخمة مع إثيوبيا في مجال مشتقات الفوسفات، ناهيك عن عشرات الاتفاقيات والمشاريع في مجالات الطاقة والاتصالات والمصارف مع دول الساحل الغربي لإفريقيا، وهي الحليف التقليدي للمغرب(13) الذي يسعى اليوم جاهدًا إلى الانضمام لتكتلها الاقتصادي (سيدياو).

 

فقد أكدت قمة أبيدجان دور المغرب كحلقة وصل رئيسية بين أوروبا وإفريقيا؛ حيث أعلن أنه سيشارك إلى جانب فرنسا وألمانيا في معالجة إحدى أعقد مشكلات الهجرة واللجوء التي تؤرِّق القادة الأوروبيين وتثير انزعاج الأفارقة على حدٍّ سواء. هذا الموضوع الذي كان محور المؤتمر الوزاري من أجل أجندة إفريقية حول الهجرة، الذي انعقد بالعاصمة المغربية في التاسع من يناير/كانون الثاني 2018.

 

فالمغرب وجنوب إفريقيا اليوم يراهنان على البراغماتية لتحل محل الاعتبارات الأيديولوجية التي كانت في الماضي، وهما على دراية تامة أكثر من أي وقت مضى بضرورة تنحية خلافاتهما لصالح التنمية والتعاون جنوب-جنوب.

 

على إثر ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه رغم الجمود الدبلوماسي الذي طبع علاقات البلدين طيلة الفترة التي مضت، إلا أن المبادلات التجارية كانت ولا تزال سارية؛ ففي 2016، استورد المغرب بما قيمته 1.8 مليار درهم من جنوب إفريقيا وصدَّر بما قيمته 654 مليون درهم، بالتالي إذا كانت الواردات مستقرة، فإن الصادرات قد ارتفعت، فقد كانت فقط 144.8 مليون درهم في 2010(14).

 

من المؤكد أن هناك تنافسًا اقتصاديًّا بين قوتين إقليميتين في غرب إفريقيا؛ حيث يؤكد المغرب نفسه اليوم بصوره متزايدة، بوصفه من أهم المستثمر الإفريقي الأول في القارة مزاحما جنوب إفريقيا من جهة، وتعد جنوب إفريقيا أقوى قوة اقتصادية وصناعية على مستوى القارة ككل والتي تتوفر على ثروات طبيعية هائلة، وكقوة عسكرية، كونها أكبر دولة إفريقية في مجال إنتاج وتصدير صناعات الدفاع والسلاح المتطور، وهي قائدة منطقة إفريقيا الجنوبية والعضو الإفريقي البارز في مجموعة العشرين والوحيد ضمن مجموعة الدول الخمس الصاعدة BRICS من جهة أخرى.

 

كل ذلك دون إغفال الجانب السياسي من هذه المنافسة والذي يشمل الجانب الأيديولوجي والثقافي والرغبة في الزعامة على مستوى القارة كل حسب منظوره خاصة بعد تراجع دور بريتوريا بوصفها محاميًا للأجندة الإفريقية التي اختارها الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي لأجله، لصالح الدفاع عن وضعها القيادي باسم دول الجنوب (15) واستفرادها به من أجل مقعد دائم في مجلس الأمن.

 

فعلى الرغم من أنه لا مناص من أن تكون هناك مجالات للمنافسة بين الدولتين، إلا أن هناك مجالات أوسع يمكن أن يكون فيها التكامل، في إطار من التعاون والتزام بالقضايا الدولية القارية والإقليمية الذي يكون في صالح الجانبين، أبرزها مكافحة الفقر وتهيئة الظروف اللازمة التي تمكِّن من ترسيخ الرخاء، فلدى كلا البلدين المؤهلات والإمكانيات، السياسية والاقتصادية، للعمل كقوى للخير الإقليمي والقاري والعالمي.

 

في هذا الإطار، ينبغي التأكيد على أن العلاقات الدبلوماسية بين الرباط وبريتوريا لم تنقطع بشكل كامل، بل إن ما حدث في واقع الأمر أن المغرب خفض تمثيليته الدبلوماسية من سفير إلى قائم بالأعمال في حين أن جنوب إفريقيا كانت تأمل استمرار العلاقات كأن شيئًا لم يحدث وهو ما ترك الباب مفتوحًا لأية علاقات رسمية وعادية محتملة بين البلدين (16).

 

ومع ذلك، فإن استقرار المغرب السياسي وتطوره الفلاحي والصناعي المتسارع ومستوى تنميته وعلاقته بالعالم العربي والإسلامي وبأوروبا تجعله ذا أهمية بالغة بالنسبة لعلاقة جنوب إفريقيا ببقية إفريقيا والعالم. وإذا ما أُريد لهذه الشراكة أن تنجح، فإنه ينبغي للقوى الإفريقية أن تعمل معًا أو تسهم على الأقل بشكل إيجابي في إيجاد حل للنزاع حول الصحراء.

 

وهذا يثير تساؤلات حول السياسة الخارجية المحتملة لجنوب إفريقيا تجاه المغرب وكيف ستدير علاقاتها مع كل من المغرب والجزائر وجبهة البوليساريو.

 

التقارب المغربي-جنوب الإفريقي وتداعياته على قضية الصحراء

إن الزعم بأن الخلافات بين المغرب وجنوب إفريقيا سوف تنتهي بمجرد لقاءين دبلوماسيين على أعلى مستوى واستئناف العلاقات التي كانت مجمدة رأي مجانب للصواب، لأن ما يربط جنوب إفريقيا بالجزائر (المحتضنة والداعم الأول لجبهة البوليساريو) رصيد دبلوماسي وتاريخي واقتصادي أكثر قوة، بحكم التراث التحرري المشترك ضد الاستعمار وارتباطهما بتحالفات تقليدية في ملفات دولية عديدة.

 

 لكن ما حدث في الآونة الأخيرة على الساحة الإفريقية يؤشر إلى تراجع نفوذ الجزائر التقليدي بعدد من العواصم الإفريقية، وذلك لأسباب داخلية منها الضائقة المالية التي تمر بها الجزائر منذ عامين بسبب تراجع عائدات النفط، وانسداد الآفاق السياسية في البلد، والصراع على الحكم، وهيمنة كابوس الفراغ في القيادة بسبب مرض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة منذ سنة 2013(17)، وهو ما يحاول المغرب الاستفادة منه عبر استمالة مزيد من الدول في الاتحاد الإفريقي إلى صفه بدل دعم الأطروحة الجزائرية. وتأتي أهمية المسألة بالنسبة للمغرب من كون الاتحاد الإفريقي هو التكتل الدولي الوحيد المعترِف بـ “الجمهورية الصحراوية"، والتي لا تحظى باعتراف الأمم المتحدة (18). حيث سيحاول المغرب مستقبلًا إقناع الدول الإفريقية بالأضرار التي يتسبب بها الاعتراف بدولة لا تملك أرضًا ولا سيادة ولا شعبًا، من انقسام إقليمي وقارِّي يمنع مسلسل الوحدة الإفريقية والاندماج الاقتصادي بين بلدان القارة وصياغة سياسة موحَّدة تجاه القضايا المشتركة. إضافة إلى الفرص العديدة الضائعة جرَّاء هذا الانقسام، على سبيل المثال ضياع الاستثمارات العربية (والخليجية أساسًا بحكم الشراكة التي تجمع المغرب مع دول الخليج ودعمهم المستمر لسيادة المغرب على الصحراء) على القارة، كما جرى في القمة العربية-الإفريقية الأخيرة بغينيا الاستوائية، سنة 2016، والتي قاطعتها دول عربية منها دول الخليج العربي (باستثناء الكويت) احتجاجًا على حضور ممثل البوليساريو وتضامنًا مع المغرب الذي أعلن انسحابه منها (19).

 

كما سيحاول المغرب إقناع الدول الإفريقية بأن تكلفة بقاء البوليساريو في المنظمة أعلى بكثير من تكلفة إخراجها منها، خاصة مع التراجع الكبير في قدرة الجزائر على التأثير على الدول الإفريقية وانهيار نظام القذافي الذي كان مؤثِّرًا في إفريقيا.

 

فمن خلال استراتيجية عزل البوليساريو إفريقيًّا، سيسعى المغرب بالتوازي مع ذلك، إلى إقناع دول القارة بتأييد طرحه حول "الحكم الذاتي" كحل وحيد ممكن لصراع الصحراء، الذي دام أكثر من أربعة عقود، وجعل هذا الطرح يحظى بدعم قاري ودولي واسع، خاصة مع تزايد عدد الدول التي سحبت اعترافها بالجمهورية الصحراوية والذي وصل إلى حوالي 46 دولة، وبقاء زهاء 34 دولة فقط تعترف بها، جُلُّها في إفريقيا (20).

 

لكن في الوقت الراهن، يبقى موقف بريتوريا وحلفائها إزاء قضية الصحراء ثابتًا وليس هناك أي مؤشر على أي تغير محتمل في هذا الشأن، حيث صوَّتت هذه الدول (جنوب إفريقيا وزيمبابوي وموزمبيق وليسوتو وناميبيا وأنغولا وبوتسوانا وأوغندا) مجتمعة ضد عودة المغرب للبيت الإفريقي، ومن الواضح أن هذه الدول تخضع لتأثير جنوب إفريقيا باعتبارها البلد الأكبر في المنطقة والمهيمن على المنظمة الإفريقية.

 

هذا الموقف يمكن تفسيره بعاملين أساسيين: أولهما: مرتبط بتركة الماضي للحزب الحاكم في جنوب إفريقيا، وما عبَّر عنه بيان الحزب الذي ربط بين رفض عودة المغرب والتحرر من الاستعمار باعتبار المغرب دولة محتلة لأراضي دولة عضو في الاتحاد (في إشارة إلى جبهة البوليساريو). والثاني: مرتبط برغبة جنوب إفريقيا في التحول من قوة إقليمية إلى قوة قارية تقود إفريقيا كلها(21)، وطموحها في عضوية دائمة في مجلس الأمن باسم القارة ودول الجنوب في الإصلاح المرتقب لمنظمة الأمم المتحدة وهو ما يصطدم بطموحات دول أخرى داخل القارة (أنغولا ومصر ونيجيريا والمغرب)، وهو ما يجعلها ترفض انضمام بلد وازن كالمغرب إلى المنظمة الإفريقية الذي يمكن أن ينافسها أو يساومها على هذا الدور، خاصة إذا علمنا أن المغرب هو أكبر مستثمر إفريقي على مستوى القارة في الوقت الراهن، وأن جنوب إفريقيا تخشى أن تمتد هذه المنافسة الاقتصادية إلى الحقل السياسي والدبلوماسي، ولذلك ترغب في منع تمدد المغرب في القارة السمراء من خلال حصره في محيطه الإقليمي-المغاربي، لاستمرار هيمنتها على القارة، بينما تنافس الرباط من موقع منع القطبية الأحادية في القارة الإفريقية.

 

بالتالي، يمكن اعتبار أن جنوب إفريقيا إلى جانب الجزائر تمتلك مفاتيح الحل في نزاع الصحراء؛ وذلك باستخدام علاقتها مع جميع الأطراف المعنية -الرباط والجزائر والبوليساريو- نظرًا لنفوذها داخل القارة وتماشيًا مع تجربتها في حل النزاعات (22)، فهل تصطدم رغبتها في الهيمنة وطموحها في مقعد دائم في مجلس الأمن بالدور المتنامي للمغرب إقليميًّا وقاريًّا؟

 

مجالات وآفاق التعاون

إن استئناف العلاقات المغربية-جنوب الإفريقية يتيح العديد من المجالات والسبل لتوثيق الشراكة والتعاون الثنائي بين البلدين (23) بغية تحقيق التكامل الاقتصادي والسياسي بين شمال وجنوب القارة الإفريقية؛ حيث يمكن:

 

أن يضطلع كلا البلدين بتنسيق السياسات والتحالفات المشتركة لحل النزاعات، ويحتمل أن يكون ذلك من خلال مبادرات مشتركة تحظى بثقة الطرفين، كما هو الشأن بالنسبة للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي (إضافة للأزمة الليبية التي يلعب فيها البلدان دورًا مهمًّا كل من موقعه). وقد تتمكن جنوب إفريقيا أيضًا من القيام بدور مهم في تيسير المزيد من الحوار بين الجزائر والرباط بهدف حلِّ مسألة الصحراء الغربية.

التعاون في تعزيز الإصلاح الديمقراطي، لاسيما من خلال الاعتراف بحقوق الأقليات، وتوطيد روح الديمقراطية في مواجهة تصاعد موجة الراديكالية السياسية.

تبادل المعلومات الاستخبارية، لاسيما فيما يتعلق بالقضايا العابرة للحدود مثل تهريب البشر والمخدرات، والجوانب الأخرى للجريمة المنظمة والإرهاب.

تعزيز آليات الإنذار المبكر.

تنسيق المعونات الإفريقية في كلا البلدين، عن طريق الجهات المانحة وبرامج كل منها.

السعي إلى توثيق التعاون الرامي إلى تحسين وصول البلدان النامية إلى التجارة العالمية.

تعزيز علاقات الأعمال باعتبارها حافزًا حاسمًا لتحسين العلاقات بين المناطق من خلال إنشاء منتدى للأعمال بين المغرب وجنوب إفريقيا وتعزيز جهودهما من أجل ربط الغرف التجارية في هيئة مشتركة على نطاق القارة، نظرًا للدور المركزي لهذه المنظمات في ضمان الحكم الرشيد.

استخدام القطاع الخاص، مثل غرفه التجارة في الدار البيضاء، من أجل العمل لمصالح جنوب إفريقيا في مجالي التجارة والاستثمار.

تبادل الزيارات البرلمانية.

تقاسم المعلومات والمواد الإعلامية.

تعزير الروابط بين الطرفين لتحسين التفاهم السياسي والحد من الاختلافات الثقافية.

القيام بتدريبات مشتركة وتبادل الخبرات في عمليات حفظ السلام.

استخدام المغرب وجنوب إفريقيا كمركزين إقليميين مترابطين للنقل البحري والجوي.

تشجيع السياحة بين البلدين.

كما ينبغي التشديد على أهمية الروابط بين الجامعات وغيرها من المنظمات غير الحكومية في الحد من التصورات الخاطئة وزيادة تدفق المعلومات ومستوى الفهم بين جنوب إفريقيا والمغرب، كما سيكون من بين المكاسب المتبادلة تبادل الخبرات في حل النزاعات.

تحسين المشاركة الدبلوماسية الاستراتيجية والحوار بين البلدين. ويمكن أن يؤدي ذلك أيضًا إلى تقليص الفجوة بين المؤسسات التي تنتج المعارف (الجامعات ومراكز الفكر والأعمال)، وتلك التي تضطلع بالمهام الدبلوماسية. كما يمكن أيضًا إنشاء لجنة حكومية مشتركه معنية بقضايا التجارة والاستثمار.

إبرام وتوقيع الاتفاقات الثنائية المعلَّقة حاليًّا.

أن تجري المشاورات الثنائية المشتركة (التي أُنشئت منذ 1998) بصوره أكثر انتظامًا، مع إشراك القطاع الخاص في هذه العملية.