الشعر الأفروأميركي سجلٌ جمالي وفني يخلد أصوات المهمشين

اثنين, 11/13/2023 - 12:10
رحلة البحث عن الحرية والوجود والمساواة قادت الشعراء إلى اكتشافاتهم الشعرية

لقد قدم الأميركان السود من أصول أفريقية الكثير للثقافة الأميركية، وتحولوا من قصص مستعبدين ومبعدين عن ديارهم ومن ضحايا العنصرية القاسية إلى منتجي ثقافة خاصة، جمعت بين أصوات أفريقيا المتجذرة في نفوسهم والانفتاح الأميركي، في مجتمع لم يعترف بهم إلا بعد قرون من النضال والمعاناة. ولعل الشعراء الأفروأميركيين أبرز هؤلاء القادة الثقافيين الذين خاضوا مواجهة جمالية وفكرية وفنية قوية لإثبات أصواتهم.

 

إن الصوت المشترك بين أغلب شعراء الكتاب الذي يضم مختارات من الشعر الأفروأميركي "وجه أمريكا الأسود.. وجه أمريكا الجميل" هو الصوت الناطق بالحلم والحرية حينا، وبالشعور بالقهر حينا آخر، هو صوت من كل لون وفي كل وقت، هو صوت الإنسان المحبوس بين السماوات والأرض. فقد عرف الأفارقة لغة أعدائهم الذين حملوهم غدرا وقهرا عبيدا إلى الدرجة التي سمحت لهم أن ينتجوا شعرا يتصدر المشهد الشعري الأميركي بل ويشكل رافدا رئيسا لا يمكن تخيل المشهد الشعري الأميركي بدونه.

 

المختارات التي ترجمها وقدم لها أحمد شافعي، وراجعها أيضا وقدم لها بدراسة عميقة جمال الجزيري، ضمت قصائد لأربعين شاعرا يمثلون تطور الشعر الأفروأميركي، من بينهم: فيليس ويتلي، جيمس ويلدون جونسون، بول لورنس دنيار، كلود مكاي، جين تومر، فرانك هوون، لانجستون هيوز، أرنا بونتام، كاونتي كالين، فرانك مارشال ديفيس، روبرت هايدن، مارغريت دانر، راي دوريم، مارغريت ووكر، ناعومي مادجت، ماري إيفانز، إيثردج نايت، هنري دوما، نكي جيوفاني.. وغيرهم.

 

البحث عن الهوية

يستعرض الجزيري في دراسته للمختارات التطورات والمراحل التي قطعها السود من العبودية إلى التحرر، والخلفيات والملابسات التي رافقت ظهور وتطور الشعر الأفروأميركي، وتأثيرات كل ذلك على رؤاهم وأفكارهم وجمالياتهم الفنية الشعرية، وكذلك تبيان الخصائص التي تميز تجربة هذا الشاعر أو ذاك ممن ضمتهم المختارات، كاشفا عن أن "شعر الشعراء الأفارقة الأميركان يعتبر سجلا جماليا وفنيا يدون مختلف جوانب حياتهم بصراعاتها وقضاياها وهمومها".

 

ويضيف "لا نقصد بالتدوين هنا أن أدبهم مباشر أو مجرد تاريخ؛ على العكس من ذلك تماما يعتبر أدبهم من أرقى وأنضج روافد الأدب الأميركي، بل والعالمي، كما في باقي الفنون كالموسيقى. فلقد بدأ صوتهم في الظهور بداية من القرن الثامن عشر، ربما على يد الشاعرة المتميزة لوسي برنس التي كتبت قصيدتها ‘شجار في الحانة’ في عام 1746 وكذلك الشاعر فيليس ويتلي (1753 – 1784) وبدأ ذلك بالتعبير الغنائي في الغالب عن مصاعب التألم على الوجود في مجتمع لا يعترف بإنسانيتهم ولا يمنحهم أبسط حقوقهم التي تكفل لهم الحد الأدنى من الكرامة والإنسانية".

 

ويعتبر الجزيري أن الشعراء الأفروأميركيين لهم تجربة خاصة في الحياة وسط مجتمع لا يقبلهم ويعتبرهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، بل إن حق المواطنة ذاته لم يحصلوا عليه إلا بعد عقود من النضال. فلقد أجبرتهم الثقافة الأميركية الغالبة – التي تنفيهم دوما ولا تعترف بإنسانيتهم وأنهم بشر لهم الحق في الحياة – على التساؤل عن معنى أن يكون أميركيا، أن يكون أسود، فألح عليهم سؤال الهوية والوجود، فمزجوا العام بالخاص في رحلتهم نحو البحث عن الحرية والوجود والمساواة والتعبير.

 

ويقول "منذ بداية ظهور الصوت الأفروأميركي على الساحة الشعرية الأميركية كان أمام هؤلاء الشعراء مجموعة من القضايا التي تؤرقهم وتتحداهم وترسب داخلهم شعورا بالمرارة والألم؛ اختيار المادة التي بإمكانهم تناولها، الزوايا التي يتناولون هذه المادة من خلالها، الأشكال المناسبة للتعبير عما يعتلج في صدورهم من مشاعر وأحاسيس وما يضطرم في عقولهم من أفكار ورؤى".

 

ويتابع أن هؤلاء الشعراء شغلهم "خلق صوت شعري يعبر عن وعيهم العرقي والطبقي والاجتماعي، مخاوفهم وتطلعاتهم بالنسبة إلى الجمهور المرتقب الذي سيلقي أعمالهم والذي لا يعرفون كيف سيتلقاها، مشكلة النشر وما يرتبط بها من عوامل اقتصادية وثقافية ومدى قبول الناشرين أو رفضهم لأعمالهم، علاقتهم بالتقاليد الأدبية، وما إلى ذلك من قضايا تتعلق بالتكوين الأدبي وما يرتبط به من رؤى ومشروعات وتطلعات ومخاوف، أي باختصار قضايا الهوية الأدبية لعرق لم يخرج صوته إلى النور بعد".

 

ويضيف أن لوسي تيري كانت أول شخص أفريقي يكتب قصيدة في أميركا، عندما كتبت قصيدة "شجار في الحانة"، وعندما نقول أول شخص نعني الأول من حسب التاريخ المعروف أو المدون، فقد يكون سبقها الكثيرون في كتابة الشعر، ولكن التاريخ لم يورد لهم ذكرا، فكثيرا ما تتجاهل الكتابة التاريخية الكثير سواء أكان ذلك عن عمد أو سهوا.

 

ودشنت لوسي تيري بهذه القصيدة تقليدا شعريا ينشد الحرية والتخلص من العبودية والمساواة كما ابتدأت صوتا ثقافيا يكتسب مصداقيته من تراكمات الأشكال الشفاهية المتميزة التي يحتويها ومن القيم التي تشي بالحنين إلى ماض كان قد أصبح ذكرى بعيدة يغالبها النسيان كما تشي بالتطلع إلى مستقبل.

 

ويقصد بالتدشين أن هذا الصوت الذي يتطلع إلى الحرية تناسل وتولدت عنه أصوات أخرى لا حصر لها ملأت الساحة الأدبية الأفروأميركية بداية من عصر العبودية الصريحة حتى ستينات القرن العشرين التي شهدت بداية تبلور جوانب عديدة من المساواة في المجتمع الأميركي، عندما انفك الشعراء السود من سحر افتتانهم بقيم الطبقة الوسطى البيضاء فنبذوها وتبنى الكثيرون منهم قيما مستمدة من أفريقيا والشتات الأفريقي.

 

ويواصل المترجم "هنا نقصد من الشتات الأفريقي تشتت الأفارقة في أنحاء عديدة من العالم خاصة أميركا وما يصاحب هذا الشتات من إحساس بالحنين إلى لم الشمل الذي كان في أفريقيا يوما ما. فقد كانت فكرة التحرر – والتحرر هنا يعني التخلص من العبودية أولا ثم التخلص من باقي القيود في ما بعد – بمثابة الروح التي تسري في جسد الشعر الأفروأميركي".

 

مدرسة خاصة

 نظر الشعراء الأفروأميركيون حولهم فوجدوا كتلا من الظلم والتفرقة والعنصرية والتعسف تجثم على صدورهم وأصواتهم، وتشكلت داخلهم رؤى مغايرة فانتقدوا القيم الاجتماعية التي تحيق بهم. وكان صوتهم في أواخر القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر معبرا عن عبيد يشكون من العبودية ويصارعون في سبيل النداء بإلغائها ويجاهدون في سبيل قضية العبودية والحرية.

 

 ويتابع الجزيري أن ذلك لا يعني أن قصائدهم كانت تقريرية أو مجرد قصائد ذات رسالة مباشرة، فلقد كانوا يطورون أشكالهم التعبيرية بالمثل، وكانت قصائدهم تجمع بين العمق المضموني والجمال الشكلي الذي يناسب هذا المضمون مثلما نجد الشكل الغنائي عند فيليس ويتلي الذي يجمع بين الصورة المستوحاة من أفريقيا وعالم الأساطير، أو الشكل الغنائي أو الشكل السردي عند فرانسيس هاربر، حيث تمتزج القصائد برؤى إنسانية ودينية في غاية العمق والروعة.

 

وفي القرن العشرين واصلت الأصوات الشعرية الأفروأميركية مناهضتها للوضع الراهن الجائر وهاجمت المؤسسات والمواقف التي تعيق حركة الحقوق المدنية وأدت إلى تغيير طبيعة المجتمع الأميركي على الساحة الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وغيرها.

 

ويلفت إلى أنه نظرا لأن هؤلاء الشعراء تناولوا قضاياهم في سياق الثقافة الأميركية الأكبر، أبدعوا شعرا نما من جذور شعبية وأفريقية واضحة، ورسخوا مفهوم الشعر باعتباره نشاطا تفاعليا أدائيا لا ينفصل عن الممارسة والحياة التي يحياها هؤلاء الشعراء، وتمكنوا من خلق تراث جمالي وشعري يتميز بالإعلاء من شأن القيم الجماعية المشتركة – المشتركة في إطار جماعة السود في الغالب لا المشتركة بين أفراد المجتمع الأميركي بشكل عام – والإعلاء أيضا من وظيفة الشق الموسيقي في الشعر، وتأكيد الإبداع الارتجالي الذي قلما يعترف بالقوالب الجاهزة أو الأطر التي أبلتها كثرة الاستعمال.

 

ويبيّن الجزيري أن كل ذلك صب نماذجهم الشعرية في تيار تتكون روافده من الابتكار والإبداع والتجديد، إلى درجة أننا يمكننا القول إن عددا كبيرا من هؤلاء الشعراء يعدّون مدارس في حد ذاتهم، وإن تقاطعت المدارس في بعض النقاط، مع تراوح اهتمامات هذه المدارس ما بين الهموم الكبرى والهموم الصغرى والقضايا الذاتية وقضايا الحياة اليومية وتناول العنصرية داخل المجتمع الأسود ذاته والقمع الذي يمارسه الرجل الأسود على المرأة السوداء مما يخلق قمعا مزدوجا عليها.