دوافع التحرك العسكري للجيش المالي شمالي البلاد.. والتداعيات المحتملة

أربعاء, 10/25/2023 - 09:06

أعلن مسؤولون أمنيون ماليون في الثالث من أكتوبر 2023م عن القرار الذي اتخذه قادة مجلس الأمن القومي في البلاد، والقاضي بتوجُّه عدد كبير من وحدات الجيش –نحو 119 مركبة عسكرية- إلى منطقة كيدال الاستراتيجية شمالي البلاد، وذلك في إطار خطة "لإعادة توزيع القوات هناك"، وذلك ردًّا على العمليات العسكرية المكثفة التي أجرتها تنسيقية حركات أزواد الانفصالية ضد أهداف حيوية للجيش المالي، وتحديدًا "قاعدة بامبا العسكرية"، إضافة إلى عدة هجمات أخرى نفَّذتها هذه الحركات -مع غيرها من الجماعات المتطرفة والإرهابية الأخرى- ضد قواعد عسكرية مالية مُهمَّة في "ليري" "وديورا" "وبوريم".

 

يُشار إلى أن جبهة تنسيق حركات أزواد شمالي البلاد "هي عبارة عن تحالف يسعى إلى الحكم الذاتي أو الاستقلال عن دولة مالي، ويتشكل من الطوارق الذين يُمثِّلون غالبية السكان فيها". وينضوي تحت تنسيقية الحركات الأزوادية عدة حركات انفصالية تنظر إلى شمال مالي على أنه موطن العرب والطوارق مثل الحركة الوطنية لتحرير أزواد (MNLA)، والحركة العربية الأزوادية (MAA)، والمجلس الإسلامي الأعلى لوحدة أزواد ((HCU.

 

وقد سبق أن أعلنت حركة تحرير أزواد في 6 أبريل 2012م استقلال الإقليم عن جمهورية مالي، نتج عن ذلك الإعلان نشوب حرب مع الحكومة المركزية المالية قبل أن تتدخل فرنسا، وتنجح الوساطات الدولية في إقناع الطرفين بتوقيع اتفاق السلام عام 2015م، وتكليف قوة دولية تُعرَف باسم “مينوسما”؛ لضمان تنفيذ الاتفاق. استمر هذا الوضع لعدة سنوات، فيما يتعلق بتوزيع مناطق النفوذ بين الشمال والجنوب، مع توسع نشاط التنظيمات المتطرفة بمرور الوقت.

 

وفقًا لما تقدم؛ يسعى التقرير فيما يلي إلى إبراز الأسباب التي دفعت الجيش المالي لاتخاذ قراره الأخير الخاص بتوجيه قوات عسكرية إضافية نحو بلدة “كيدال” شمالي البلاد، وإيضاح النتائج المتوقعة على توسع نطاق النزاع العسكري بين الجيش والحركات الانفصالية شمالي البلاد.

 

أولًا: دوافع توجيه حملة للجيش المالي شمالي البلاد

 

هناك مجموعة من العوامل من أبرزها ما يلي:

1- التطور العملياتي للنزاع بين الحكومة المالية وقوات الجيش من ناحية والجماعات الانفصالية بصفة عامة -والأزوادية- على وجه الخصوص، والذي وصل لمراحل متقدمة خلال الآونة الأخيرة، لم يسبق أن وصل إليها من قبل في مواجهة الحركات الانفصالية على مدار نحو 11 عامًا، ومن ذلك:

 

– ما أعلنت عنه حركات أزواد من سيطرتها على 4 معسكرات للجيش المالي منذ أغسطس 2023م، إضافةً إلى 11 مركبة عسكرية، ناهيك عن مدينة “بوريم” الاستراتيجية في الإقليم الواقع في منطقة غاو، والتي من الممكن أن تؤثر على موازين القوى في النزاع العسكري المحتمل بين الجانبين.

 

– في سبتمبر الماضي 2023م -وفي سابقة منذ توقيع اتفاق السلام بين الجانبين في 2015م- قامت حركات أزواد بمهاجمة ثكنة عسكرية في بلدة ليري، وتمكنت من إسقاط طائرة مروحية تابعة للقوات الجوية المالية شمال مدينة غاو، وانتهى التصعيد بإعلان قادة جبهة تنسيق حركات أزواد عن تغيير اسمها "للجيش الوطني للأزواد"، والإعلان عن كونهم في حالة حرب مع المجلس العسكري الانتقالي في مالي، داعين جميع سكان منطقة أزواد الشمالية إلى الذهاب إلى الجبهة للمساهمة في جهود الحرب، وكذلك مطالبة سكان أزواد وجميع المدنيين بالابتعاد عمن وصفتهم بـ”إرهابيي فاغنر” المعاونين للجيش المالي.

 

– وفي منطقة بير (شمال)، اتهمت تنسيقية حركات أزواد الجيش المالي بالهجوم على قواتها، بينما رد الجيش المالي بتأكيد مقتل 6 من جنوده وجرح 4 آخرين في هجوم شنّته جماعات متشددة، أسفر عن مقتل 24 من المهاجمين.

 

– في 21 سبتمبر الماضي اتهم الجيش المالي تنظيم القاعدة بالوقوف خلف قصف مدينة تمبكتو في شمال دولة مالي، والذي تسبَّب في مقتل شخصين على الأقل، وإصابة 5 آخرين، وذلك ردًّا على اتهام الحركات الأزوادية للجيش المالي وفاغنر –وفقًا لروايتهم- بقتل 12 مسافرًا من الطوارق والعرب والفولان في 14 سبتمبر من الشهر ذاته خلال توجُّههم نحو مدينة غاو (شمال)، وهو ما لم يؤكده الجيش المالي.

 

– إعلان متمردي الطوارق في 2 أكتوبر 2023م عن الاستيلاء على قاعدة توسا العسكرية.

 

2- تصاعد العمليات الإرهابية في الشمال -والتي تزامنت مع هجوم المتمردين-، وذلك منذ أن استولى المجلس العسكري الانتقالي على السلطة في 2020م للمرة الأولى، ثم في مايو 2021م؛ حيث تزايدت وتيرتها خلال الفترة الأخيرة التي سبقت إعلان الحكومة المالية عن تحركها العسكري في كيدال شمالي البلاد كالتالي:

 

– اقتربت مالي من أن تسجل 1000 عملية إرهابية قامت بها الجماعات المتطرفة أو أحداث عنيفة خلال العام الحالي 2023م بزيادة 3 أضعاف عما كانت عليه عام 2020م كما زادت نسبة الأراضي التي اجتاحتها هذه الجماعات بزيادةٍ قُدِّرت بنحو 18% عن عام 2020م، وكذلك زيادة عنف الجماعات المتطرفة ضد المدنيين منذ ٢٠٢١م بنسبة ٢٧٨%، ونتج عنها مقتل نحو ١٦٣٢ شخصًا. هذا بالإضافة إلى وقوع ١٦ حادثة عملية إرهابية –مقارنة بـ5 فقط خلال الستة أشهر السابقة- استهدفت عدة أهداف، من بينها أهداف عسكرية (من بينها هجوم حركة تحرير ماسينا التابعة لجماعة نصرة الإسلام وتنظيم القاعدة في يوليو 2023م، وما أعقبها من تهديد بحصار العاصمة باماكو، وهجوم داعش في أغسطس 2023م الذي تسبَّب في مقتل ما يقرب من 42 عسكريًّا من الجيش المالي، ثم هجومان انتحاريان من نصرة الإسلام في 8 سبتمبر خلَّفا نحو 64 قتيلًا من المدنيين والعسكريين، ثم هجوم في 5 أكتوبر 2023م على قاعدة توسا العسكرية القريبة من بوريم).

 

– إنَّ تزامُن تزايد النشاط الإرهابي في المنطقة الشمالية خلال الآونة الأخيرة –ولا سيما إقليم أزواد- بفعل الثروات الطبيعية والنفطية والرعوية الهائلة التي يحتوي عليها الإقليم، جاء بالتوازي مع تزايد عمليات تهريب السلاح والبضائع غير المشروعة والوقود، خاصة من الدول المجاورة “لا سيما مع اتساع المساحات الحدودية وغياب السيطرة الأمنية الكاملة عليها.

 

3- إن إعلان الجيش المالي عن توجيه حملة للإقليم شمالي البلاد جاء عقب بَدْء عملية الانسحاب المبدئي لبعثة الأمم المتحدة "مينوسما" في يونيو 2023م، –بناءً على طلب من المجلس العسكري الانتقالي بدافع عدم تحقيق البعثة للاستقرار الأمني المنشود-، كما سحبت فرنسا قواتها من البلاد عقب قرار ماكرون إنهاء "عملية برخان" في أغسطس 2022م؛ وذلك بعد أن انسحبت مالي من الاتفاقيات الأمنية مع فرنسا، ومن المقرر وفقًا للجدول الزمني الموضوع أن تنتهي البعثة الأممية من أعمالها بشكل كامل في 31 ديسمبر القادم، وتظهر أهمية القوات المسؤولة عن حفظ السلام في مالي؛ سواء القوات الفرنسية أو "الأممية" تحديدًا من خلال ما يلي:

 

– إنها كانت تتولى دور الوساطة وإقرار السلام بين الحكومة والجيش المالي والحركات الأزوادية والطوارق، وتنجح في ذلك في أحيانًا كثيرة.

 

– حظيت البعثة الأممية بأهمية خاصة؛ لأنها أكبر بعثة أممية ضمَّت نحو 15 ألف شخص، كما أنها تُواجه مهام خطرة، وقُتل منها نحو 190 جنديًّا على مدار عشر سنوات، إضافة إلى إصابة عدد من الجنود التابعين لها بجروح.

 

– إن انسحاب بعثة مينوسما تسبَّب في نشوب أحد أسباب الخلاف بين الطوارق، أو ما يُطلق عليه الحركات الأزوادية، وبين الحكومة المالية؛ حيث ترى الحركات أن رحيل القوات الدولية سيتبعه تقدم للقوات الحكومية وهو ما تعارضه هذه الحركات، في المقابل يصرّ الجيش المالي على بسط سيطرته الكاملة على كافة المناطق والمعسكرات شمالي البلاد عقب مغادرة قوات البعثة الأممية، وكذلك قوات "برخان" الفرنسية.

 

4- من أسباب توجيه حملة عسكرية من الجيش للشمال هو الأهمية الاستراتيجية للمنطقة الشمالية في مالي وبلدة "كيدال خصيصًا":

 

– حيث شهدت كيدال تمردًا عسكريًّا في منذ فترة طويلة، وهو الأمر الذي تسبَّب في إحداث قلق للمسؤولين العسكريين الماليين من ناحية، (ومن ناحية أخرى تحتل كيدال موقعًا استراتيجيًّا وحيويًّا في البلاد؛ فهي منطقة حدودية تقع على الحدود بين مالي والجزائر، كما أنها تبعد كثيرًا عن العاصمة باماكو "أكثر من 1500 ك.م"، وتبتعد مئات الكيلومترات من المدن الشمالية الرئيسية مثل "غاو وتمبكتو"، وبالتالي فهي منطقة خارجة عن السيطرة الأمنية العسكرية للبلاد، ويتحكم فيها تنسيقية حركات أزواد، وقد سقطت في أعقاب تمرد 2012م؛ حيث سقطت حينئذ تحت سيطرة كلّ من حركة أزواد والمتطرفين، ثم تحت سيطرة المتطرفين فقط، ثم استعادها الانفصاليون عام 2013م -حتى الآن- في أعقاب التدخل الفرنسي في البلاد، ومما يزيد من أهمية إقليم أزواد هو مساحته الاجمالية التي تصل إلى نحو 820 ألف كلم مربع، أي ما يعادل ثلثي مساحة البلاد البالغة 1.24 مليون كم، إلا أنه يعاني من قلة عدد السكان؛ حيث لا يتعدى عدد سكانه نحو 1.3 مليون نسمة، غالبيتهم من الطوارق والعرب، يمثلون نحو 8.7% من سكان البلاد).                               

 

5- الإشكاليات التي اعترت اتفاق الجزائر للسلام المُوقَّع في 2015م (والذي هدف إلى منع انفصال إقليم أزواد عن الدولة المالية، مقابل التعهد بتنمية الإقليم المُهمَّش، وإدماج مُسلّحيه في الوظائف المدنية والعسكرية العليا)، ومن أبرز تلك الاشكاليات ما يلي:

 

– عدم رضا قادة الجيش عن الاتفاق، وخاصةً بعد سلسلة الهجمات التي تعرَّضوا لها في عام 2014م.

 

– على الجانب الآخر؛ فإن الاتفاق لم يحقق أهداف الطوارق المتعلقة بالانفصال عن باماكو؛ حيث نظر إلى هذا المطلب باعتباره متناقضًا مع مبدأ "الحدود الموروثة عن الاستعمار"، الذي تبنَّته منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963م (الاتحاد الإفريقي لاحقًا).

 

– الخلاف بين طرفي النزاع حول تفسير بعض بنود الاتفاق، وخاصة المتعلقة بتفكيك الحركات المسلحة الأزوادية، وإعادة دمجها ضمن قوات الأمن والجيش المالي، أو تسريحهم ودمجهم في الحياة المدنية، وأن يكون لهم تمثيل في المناصب القيادية. (وذلك برغم اتفاق الجيش على دمج 26 ألفًا من عناصر الحركات الموقعة على اتفاق السلام في الجيش وقوات الأمن، إلا أن عملية الدمج اتسمت بالبطء بسبب الخلاف حول الرتب العسكرية).

 

– انقلاب 2020م، والذي عقّد الوضع بعد أن هددت تنسيقية الأزواد بالانسحاب من الاتفاق؛ نظرًا لعدم تنفيذ باماكو لبنوده لسنوات عديدة، (وتوسطت الجزائر أكثر من مرة للحفاظ على الاتفاق المُوقَّع مع عرض إمكانية تعديله).

 

– لم يُنْهِ الاتفاق النزاع المسلح، وكذلك مطالب حركات أزواد بشكل نهائي، وبقي دون تنفيذ.

 

– أغفل الاتفاق ذكر أيّ أمور تتعلق بعمل هدنة تُلزم الأطراف المعنية، وكذلك استراتيجية أمنية لمكافحة الإرهاب؛ حيث استمر هجوم الجماعات المتطرفة على ماباكو وحدودها المجاورة (النيجر وبوركينافاسو)؛ الأمر الذي تسبب في نتائج سلبية كبيرة من كافة الجوانب الإنسانية، والعسكرية، والبشرية… إلخ.

 

– عدم تلقي "السلطات المؤقتة" في مدينة كيدال للتمويل المقرر، في مقابل مواجهتها -بشكل منفرد- للجماعات الإرهابية بعد رحيل قوات "برخان" الفرنسية و"تاكوبا" الأوروبية في 2022م.

 

6- تصوُّر المجلس العسكري بقيادة العقيد عاصيمي غويتا حول تغيُّر ميزان القوى لصالح الدولة المالية: حيث رأى أن ميزان القوى في إقليم أزواد اختل لصالحه، ويمكنه تحريك قواته شمالًا للتمركز في المنطقة وإثبات سيادته الكاملة عليها، وممَّا عزَّز من هذا التصور:

 

– مغادرة القوات الفرنسية والأُممية التي كانت تمثل عائقًا أمام قوات الجيش المالي.

 

– الدعم الروسي والصيني الذي حصل عليه الجيش المالي والمجلس العسكري، والذي عزَّز من قدرته لحسم الصراع مع كافة الأطراف لصالحه: (قوات فاجنر التي استأجرها المجلس الانتقالي، وقُدِّرت منذ ديسمبر 2021م بنحو 1000 مقاتل، وكذا الدعم الروسي العسكري بالطائرات الحربية والمروحيات القتالية الروسية "التي مكَّنت الجيش من أن يصبح ثاني أكبر قوة جوية بين جيوش المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس) بعد نيجيريا"، وكذلك الدعم العسكري الصيني من خلال المدرعات المزودة برشاشات لعمليات مكافحة الإرهاب).

 

– توقيع مالي لاتفاقيات دفاع مشترك مع الدول المجاورة لها مؤخرًا؛ حيث وقَّعت في 16 سبتمبر الماضي 2023م اتفاقيات مع كلّ من "النيجر وبوركينا فاسو" على تحالف ثلاثي للدفاع المشترك لصالح أيّ طرف يتعرّض لأيّ تهديد.

 

7- إن وصول النزاع إلى هذه النقطة جاء بسبب عدم اتباع استراتيجيات سليمة للتعامل مع أزمة المتمردين في الشمال خلال الفترات السابقة، ولا سيما خلال الفترة من 2002-2012م: حيث اعتمد نظام الرئيس السابق "أمادو توماني توري"، على أنصار سياسيين وأصحاب أعمال مشبوهين، لهم صلات بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب، وبالتالي تزايدت معدلات الفساد الناتجة عن تزايد معدلات الجريمة الدولية، وقاد ذلك في النهاية إلى زيادة التوتر العرقي والإثني مقابل إهمال المشكلات الخاصة بالتخلف والفقر الخاصة بالإقليم. جاء ذلك بالتوازي مع إخفاق "البرنامج الخاص بالأمن والسلامة والتنمية"، الذي موَّله الاتحاد الأوروبي والجهات الدولية الأخرى بقيمة 50 مليون يورو في أغسطس 2011م، والذي هدف إلى إخماد السخط المتزايد لسكان الشمال؛ حيث تمت إعادة هيكلة الوجود العسكري للجيش المالي في الشمال، وهو ما اعتُبِرَ وفقًا للأزواديين مخالفًا لاتفاقية الجزائر المُوقَّعة عام 2006م، والتي نصَّت على خفض القوات المالية في الجزء الشمالي.

 

8- هذا بالإضافة إلى تضافر مجموعة عوامل أخرى أدَّت لتوسع الحركات الانفصالية والمتطرفة من أبرزها: "ضعف الحوكمة، وانتشار الفساد"، والتي لا يجدي معها بالتالي وجود قوات أممية أو دولية للمساعدة على إقرار السلام، وتزامن ذلك مع غياب آليات لمشاركة ودمج المواطنين، والتوزيع غير العادل للثروة المستخرجة من التنقيب عن الموارد الطبيعية، إضافةً إلى عدم الاستقرار السياسي وكثرة حدوث انقلابات عسكرية، وغياب تبنّي استراتيجيات صحيحة تُحقِّق التنمية الشاملة للمناطق الأقل حظًّا في الشمال، وكذلك تنامي الصراعات بين الإثنيات، والانقسامات داخل قبائل الطوارق والتي صاحبها التدخل الأجنبي الخارجي وما نتج عن ذلك من ازدياد الفقر واليأس والهجرة غير الشرعية.

 

ثانيًا: التداعيات المحتملة للتصعيد العسكري في إقليم الأزواد الشمالي

بصفة عامة يمكن القول: إن نتائج الصراع الدائر ستصبح في الغالب غير متوقعة، ويصعب التنبؤ بها بشكل جازم (لأسباب تتعلق بصعوبة التحقق من تصريحات الأطراف المتنازعة بشكل جازم –من مصادر إعلامية مستقلة- في هذه المناطق الحدودية النائية)؛ حيث يصبح أمر الوصول إلى مصادر مستقلة أو دولية معروفة في هذه الظروف من الصعوبة بمكان. بيد أنَّ هناك نتائج عسكرية، وسياسية، واقتصادية، وإنسانية يمكن توقع حدوثها وفقًا للآتي:

 

1- إنه برغم تمتع الجيش المالي بقدرات وإمكانات عسكرية؛ حيث يحتل الترتيب 110 عالميًّا -وفق ترتيب موقع "غلوبال فاير باور" لقدرات الجيوش لعام 2023م، والـ21 إفريقيا، إضافةً إلى امتلاكه 39 طائرة حربية و50 دبابة، و1294 مركبة عسكرية، و15 مدفعًا مقطورًا، و45 راجمة صواريخ، وعدد جنود حوالي 20 ألف، ناهيك عن نصف مليون مواطن "من طوارق الأمغاد" تؤيده، وكذلك قوات الموك؛ بيد أن هناك على الجانب الآخر قدرات عسكرية لا يمكن التقليل من شأنها فيما يخص "الحركات الانفصالية" -صحيح ليس لديها معدات- "الدبابات وقواعد الصواريخ وغيرها"؛ إلا أن عدد جنود الأزواد لا بأس به -نحو 26 ألف مقاتل، ونحو 500 من الحرس الوطني من الطوارق الفارين والمنضمين للحركة الوطنية لتحرير أزواد، إضافة لوجود عدد كبير –نحو 3000 مقاتل- من المقاتلين قادمين من ليبيا في قوات من ليبيا، ناهيك عن امتلاك آلاف سيارات تويوتا "بيك آب" السريعة والمحملة بدفاعات ومضادات جوية، وكميات من الأسلحة الخفيفة والمتفجرات، إضافةً لامتلاكهم خبرة في حروب العصابات والكَرّ والفَرّ في المناطق الصحراوية المعقدة جغرافيًّا. وهو ما يعطي الأخيرة وزنًا عسكريًّا أيضًا في مقابل وزن القوات الحكومية. هذا بالإضافة للقدرات العسكرية التي تمتلكها الجماعات المتطرفة والإرهابية، وهو ما يعني أن قوة وقدرة الجيش المالي ستصبح مركزة في أكثر من اتجاه في أفضل الأحوال.

 

2- التخوف من أن تنجرف مالي إلى "حرب أهلية شاملة" طويلة الأمد، لن يصبح فيها حسم الصراع أمرًا سهلًا لأحد الأطراف على حساب الطرف الآخر، مع تزايد نشاط الجماعات الإرهابية، لا سيما داعش وتنظيم القاعدة، يتزامن ذلك مع احتمال مواجهة البلاد لصراع عِرْقي كامل، خاصةً إذا ما قرَّر الطوارق -الموجودون في غرب وشمال إفريقيا- خلال المعركة الانضمام إلى مقاتلي الحركات الأزوادية في مالي، ما يهدِّد باتساع الصراع.

 

3- يمكن توقع استغلال أطراف الصراع الأخرى للتصعيد الدائر بين طرفي النزاع الرئيسيين لإشعال الموقف وتحقيق مكاسب على الأرض. وبشكل أوضح فإن التنظيمات المسلحة، لا سيما تنظيم القاعدة وجبهة نصرة الإسلام، تحاولان إثارة الخلاف بين الجانبين؛ حتى يسهل عليهما السيطرة والتوسع وكسب مزيد من الأراضي والمناطق في غرب إفريقيا، وخاصة عندما يتم إضعاف قدرات الجيش المالي وتشتيت انتباهه في الحرب في أكثر من اتجاه، وبالتالي يتزايد النشاط الإرهابي والإجرامي (من عمليات تهريب أسلحة ومخدرات وغيرها)، وبالتالي تزيد حالة انعدام أمن واستقرار المنطقة.

 

4- وفقًا للعامل السابق فقد تشهد الفترة المقبلة تكرارًا لمساعي الانفصاليين للاستقلال بشمال مالي، وتشكيل دولة للطوارق هناك؛ إذا ما امتد النزاع لكافة أنحاء الإقليم خلال الفترة القليلة القادمة، "لا سيما أن مساحته تبلغ نحو ثلثي مساحة الدولة المالية". وتعزز هذه المخاوف عدة معطيات؛ أهمها خروج القوات الفرنسية من مالي، وكذلك الخلافات الأخيرة التي نشبت بين موسكو ورئيس مجموعة فاغنر والتداعيات السلبية التي يمكن أن تحدث نتيجة ذلك، فيما يتعلق بتقليص حجم وشكل الوجود الروسي في إفريقيا وعلى رأسها "مالي"، وهو ما سيؤثر قطعًا على الوضع العملياتي والفعلي على الأرض لا سيما في ظل توجُّه السلطات الانتقالية في باماكو للاستعانة بالشركة الروسية لدعمها في مواجهة التهديدات الإرهابية والحركات الانفصالية. وبالتالي ربما تُشكِّل هذه المعطيات مُحفِّزًا للانفصاليين لإعادة تكرار محاولاتهم السابقة.

 

5- وضع مزيد من التحديات الأمنية والعسكرية على الجيش المالي، خاصةً مع تزايد العمليات الإرهابية خلال الآونة الأخيرة التي تقوم بها جماعات نصرة الإسلام وداعش وغيرها، ومما يُعقِّد من هذه التحديات ويؤكدها عدة أمور؛ أولهما انشغال طرفي النزاع الرئيسيين بالحرب مع بعضهما البعض، وثانيهما انسحاب بعثة الأمم المتحدة المبدئي في يونيو 2020م بناء على طلب من المجلس العسكري الانتقالي المالي، وكذلك فرنسا من مالي، إضافةً إلى انسحاب مالي نفسها في 16 مايو 2022م من كافة هيئات ولجان مجموعة دول الساحل الخمس، وثالثها هو ضَعْف قدرات المجلس العسكري لمالي فيما يتعلق بالرصد والتصدي الأمني للتهديدات الإرهابية، "لا سيما في حال وقوع العاصمة باماكو أو المواقع والقواعد العسكرية الاستراتيجية تحت قبضة التنظيمات الإرهابية"، وهي العوامل التي تزيد من القيود الأمنية على الجيش، وتزيد من وتيرة العمليات الإرهابية، وخاصة في المناطق المتوترة.

 

6- إن التطورات والتصعيدات التي شهدتها مالي منذ أغسطس 2022م –تعني إنهاء فرص السلام وإضعاف إمكانية تنفيذ الاتفاقيات المُوقَّعة، وهو ما ظهر بعد أن أعلن المكتب التنفيذي لتنسيقية الحركات الأزوادية في يوليو 2022م عن تجميد العمل باتفاق السلام 2015م. وبالتالي فإن التطورات اللاحقة ستُضعف أيضًا وتُنْهي فُرَص ما تم الاتفاق عليه وفقًا لاجتماع باماكو في اغسطس 2022م بين الحكومة المالية، ومُمثلين عن الحركات الأزوادية، وممثلين جزائريين لإعادة تفعيل العمل بـ"اتفاق السلام والمصالحة"، ووقف النزاع المسلح، والتأكيد على المصالحة الوطنية، ومراعاة البُعْد العِرْقي دون المساس بوحدة البلاد.

 

7- إن تأثير الصراع ظهر هنا على العملية السياسية في البلاد ذاتها في أكثر من ناحية:

 

– بسبب الصراع الدائر بين الطرفين، لم يحظَ الدستور الانتقالي الذي أصدره المجلس العسكري الانتقالي في يونيو 2023م الماضي بدعم كبير أو مشاركة شعبية واضحة خاصة من سكان وسط وشمال مالي باستثناء مدن غاو وتمبكتو وميناكا، وقد بلغت نسبة المشاركة نحو 39,5% فقط من السكان، "تخوفًا من التعرض لهجمات إرهابية أو تخوفًا من تأثيرات النزاع العسكري بين الجيش والحركات الأزوادية". (وذلك بعد أن قامت حركات الأزواد، بمنع إجراء عملية الاقتراع في شمال البلاد، باعتبار أن هذا الاستفتاء لا يدعم اتفاق السلام المُوقَّع مع السلطات المالية، كما اتهمت الحكومة بتزوير عملية الاقتراع في المناطق التي شهدت عملية تصويت).

 

– إن تأثير التوتر الدائر في شمالي البلاد قد ظهرت آثاره بالفعل على العملية السياسية في البلاد، وذلك بعد أن أعلن المجلس العسكري الحاكم مؤخرًا في 25 من سبتمبر الماضي تأجيل موعد الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في فبراير 2024م؛ وذلك "لأسباب فنية" تتعلق بإقرار دستور جديد ومراجعة اللوائح الانتخابية. ولم تعلن السلطات عن موعد جديد للانتخابات، ولكنها قالت: إنه "سيُعْلَن عنه في بيان لاحق".

 

8- إن النزاع العسكري من شأنه أن يزيد من الانعكاسات الاقتصادية السيئة التي تعيشها البلاد منذ فترة (نتيجة توتر علاقتها مع منظمة الإيكواس منذ يناير 2022م، وما تبعها من فرض عقوبات، "والتي تم رفعها لاحقًا"، ووجود عجز مالي نتج عن عدم القدرة على سداد ديونها، وإغلاق حدودها، وعزلها عن السوق المالية الإقليمية، وفرض عقوبات فردية مالية على أعضاء بالمجلس العسكري الحاكم)؛ حيث إن توسيع النزاع سيُضاعف من العواقب الاقتصادية المحتملة؛ نتيجة توجيه موارد البلاد "التي تعاني بالفعل كما سبقت الإِشارة" إلى اقتصاد الحرب ودعم الآلة العسكرية، وهو ما سيُسبِّب مزيدًا من الضغوط والآثار السياسية والمجتمعية السلبية أيضًا على الدولة. كما أن تزايد الصراع سيزيد من النشاط الإرهابي والإجرامي لمختلف الجماعات الموجودة شمالي البلاد، ومعه ستتزايد مشكلة استنزاف الموارد الطبيعية للبلاد، "ولا سيما من الذهب الذي تحتل البلاد في تصديره مركزًا متقدمًا".

 

9- الخسائر البشرية والإنسانية المتوقع أن تنتج عن تصعيد الصراع العسكري بين الجيش المالي وحركات الأزواد، لا سيما مع ضخامة الآثار التي خلَّفها النزاع خلال العقد الأخير الذي شهد الصراع بين الجيش المالي مع الحركة الانفصالية الأزوادية، والتي تنبئ الأحداث بتكرارها مرة أخرى؛ حيث ترتب على هذه الفترة من النزاع نتائج كارثية بما في ذلك النزوح القسري الجماعي، ووضع إنساني كارثي؛ حيث أشارت تقديرات الأمم المتحدة إلى حاجة نحو 8,8 مليون شخص في مالي إلى المساعدة الإنسانية، كما فقَد الكثيرون من المقيمين في الإقليم سكنهم الأصلي، وذلك بعد أن تم إجبار ما لا يقل عن 440 ألف شخص على الفرار من ديارهم.

 

في النهاية، كما سبق القول، فإنه يصعب "الجزم" بنتائج الصراع الدائر حاليًّا بين الحركات الانفصالية من جانب والطوارق وقوات الجيش الحكومي من جانب آخر، وأن التوصل إلى تسوية سلمية ووقف آلة الحرب يتوقف على حجم إدراك الطرفين لوجود نقاط التقاء بين الجانبين يمكنهما من خلالها العودة مرة أخرى، وكذلك مدى استجابة الحكومة والجيش المالي لمطالب الحركات الأزوادية؛ خاصةً تلك المتعلقة بحصول الأخيرة على حصة في المناصب القيادية في المؤسسات العسكرية والأمنية، واعترافها بحقوق الأزواد في الشمال "مع التفرقة بين الحركات التي لها مطالب سياسية والجماعات المتطرفة التي تسعى لتحقيق أهداف توسعية وإجرامية"، والعمل على إحداث دمج سياسي وعرقي في البلاد، لا سيما مواطني الشمال، إضافةً إلى مدى تمتع الحركات الأزوادية بالمرونة الكافية لتنفيذ أهدافها مع الإبقاء على تابعيتهم للدولة الأم في باماكو، ناهيك عن حجم الضغط  والدعم وفقًا لسياسة العصا والجزرة، التي يمكن أن تمارسها مختلف الأطراف الإقليمية والإفريقية والدولية، ولا سيما (الجزائر والنيجر وموريتانيا وبوركينافاسو – فرنسا-  الاتحاد الإفريقي- الأمم المتحدة- الولايات المتحدة الأمريكية)، على الحركات الانفصالية والقوات الحكومية معًا –كلّ وفقًا لقدراته وإمكاناته-، وخاصةً أن هذه الأطراف المتعددة لن تقبل بإلحاق الهزيمة بالجيش المالي بشكل كامل أو أن تعلن حركات الأزواد انفصالها التام عن مالي بأيّ حالٍ من الأحوال.

** بقلم د. محمد أحمد عبد النبي