لقد أحرقوا ذاكرة الوطن.. أحرقوا التاريخ.. ما حدث طعن للذاكرة السودانية". بتلك الكلمات لخص مدير جامعة أم درمان الأهلية محصلة الدمار الذي لحق بواحدة من أعرق المكتبات السودانية وأكثرها ازدحاما بالمؤلفات والمخطوطات النادرة، في سياق تداعيات الحرب والانفلات الأمني بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ 15 أبريل الماضي.
وخلف إحراق مكتبة مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية بالجامعة الأهلية حسرة وأسى في نفوس الآلاف من طلاب وخريجي الجامعة العريقة، الذين تفاعلوا بحزن كبير مع نبأ حريق المكتبة الذي أشاع كذلك حالة من الغضب والحزن بين المفكرين ودارسي التاريخ كونها من المراكز البحثية المهمة في البلاد.
ولجامعة أم درمان الأهلية سيرة محببة في نفوس عدد كبير من السودانيين؛ فهي أول جامعة للتعليم الأهلي تنشأ في البلاد، أسسها دكتور محمد عمر بشير عام 1985، كجامعة غير ربحية بدأت بكليات محدودة ثم توسعت لتشمل مجالات العلوم الإدارية واللغات والكمبيوتر والتوثيق والمكتبات الدراسات البيئية وعلوم المختبرات الطبية، قبل أن تتحول إلى جامعة كاملة بكل أقسامها، وباتت رائدة التعليم الجامعي الأهلي والأكبر من نوعها في السودان.
محو ذاكرة السودانيين
ورغم أن إحراق مكتبة المركز وقع في سياق عملية نهب اتصلت نحو 10 أيام وطالت كل ممتلكات الجامعة الأهلية، لكن مديرها البروفيسور المعتصم أحمد الحاج يظهر قناعة بأن إحراق مكتبة مركز محمد عمر بشير كان عملا ممنهجا دافعه الأساسي محو ذاكرة السودانيين.
ويروي أحمد الحاج للجزيرة نت كيف أن النيران أحرقت معها وأضاعت إلى الأبد جهد 37 عاما من البحث وجمع الكتب والوثائق النادرة، ويقول إن ما جرى ليس سوى محاولة لتركيع الجامعة الأهلية التي تمثل نموذجا للعمل الطوعي واستمرارا لمسيرة التعليم الأهلي التي بدأها الآباء بإنشاء المدارس الأهلية.
كما يعتقد أن جهة ما أرادت بث رسالة مفادها أنهم إذا استولوا على السلطة لا بد أن تكون هذه الجامعة غير موجودة؛ لأنها تمثل رمزية كبيرة مثلما كانت تمثلها طوال 30 عاما من حكم النظام المعزول.
مخطوطات نادرة
وتضم مكتبة المركز المنكوبة مكتبات شخصية لرموز وطنية صاحبة إسهامات سياسية وثقافية ومخطوطات ومؤلفات وأوراق بذلها بخط يده مؤسس الجامعة الأهلية محمد عمر بشير المتوفي عام 1992، الذي سميت باسمه مكتبة المركز، وكان صاحب الباع الطويل في الكتابة عن جنوب السودان، وله مؤلفات عن التعليم في السودان وتاريخ الحركة الوطنية وغيرها من عشرات الكتب والمخطوطات والمؤلفات التي عكف على جمعها وتنقيحها سنوات.
وفي المركز أيضا كانت مكتبة فقهية متميزة تبرعت بها أسرة الشيخ الراحل حسن الدرديري، بجانب كتب ووثائق نادرة تبرعت بها أسرة العقيد مظلات عزت فرحات، فضلا عن كتب ومؤلفات نادرة لإبراهيم يوسف سليمان أحد أبرز أعضاء جمعية أبوروف الأدبية التي كانت قوة دافعة للنشاط الثقافي والوطني ومثلاً يحتذى به لغيرها من الجمعيات الأدبية.
وقضت النيران كذلك على مجموعة الراحل حماد توفيق أول وزير مالية بعد الاستقلال ومن الشخصيات الوطنية المعروفة، كما أحرقت جزءا كبيرا من مكتبة الدكتورة زينب بشير البكري وغيرها من مجموعات نادرة تبرع بها أفراد لمكتبة المركز.
وتوفرت لمكتبة المركز التي قضت عليها النيران أكبر حصيلة من وثائق الحركة الوطنية وأكبر مجموعة من الصور عن معالم السودان والشخصيات التاريخية تم جمعها خلال سنوات طويلة.
ويؤكد مدير الجامعة المعتصم الحاج أن المقتنيات التاريخية التي ضاعت لا تقدر بثمن، ولا يوجد أرشيف أو نسخ بديلة لتلك المؤلفات النادرة، ويروي بمرارة كيف استبيحت مباني الجامعة، وكيف أن قوة النيران تسببت في ثني الحديد الذي كان يحمل الكتب، وأن اللهب استمر مشتعلا 3 أيام من دون أن يتمكن أحد من الدخول لمباني الجامعة باستثناء من استباحوها ونهبوها طوال 10 أيام، وهم عصابات تقدر أعدادهم بنحو 400 شخص.
ويشرح المعتصم أن الجامعة في الأساس تحرسها شرطة الجامعات، لكنها انسحبت مع اختفاء عناصر الشرطة في جميع أنحاء الخرطوم فور نشوب الصراع.
ويضيف "بدأ النهب والتكسير والتخريب والنقل بالسيارات إلى أن علمنا بأن الأمر ليس سرقة فقط، إنما أمر ممنهج تتم فيه بعثرة الأوراق في المكاتب المهمة وإحراق مكتب الامتحانات بكلية العلوم الإدارية وهذا أمر غريب، وطال التخريب كذلك المعامل ومئات من أجهزة الحاسوب، ولم يتركوا أي شيء سوى المباني"، كما يقول.
تصميم على العودة
وحسب مدير الجامعة، فإن كل أم درمان القديمة تخضع لسيطرة قوات الدعم السريع، بما في ذلك المنطقة المحيطة بالجامعة، لكنهم لم يحركوا ساكنا لإنقاذها رغم إخطارهم، ويروي تواصله مع جهات في الدولة، لكنها أبلغتهم أن تلك الجهات خارج سيطرتهم وتخضع للدعم السريع.
ولا يتردد المعتصم في تحميل مسؤولية ما جرى للطرفين المتصارعين، لكن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الطرف الذي تخضع المنطقة لسيطرته ولم يتدخل "إما جهلا أو معرفة بالجامعة الأهلية"، وفق تعبيره.
ورغم كل الدمار والخسائر الفادحة التي لحقت بهذا الصرح التعليمي الكبير، يبدي المعتصم أحمد الحاج إصرارا على إعادتها لتكون صرحا ومنارة للتعليم الأهلي الشعبي في السودان، فالجامعة -كما يقول- مرت بحوادث متعددة من حرق ونهب ورصاص ثمنا لمواقفها الوطنية، وفي كل مرة تنهض من جديد.
ويردف "نحن الآن سننهض بأفضل مما كنا، فإن كان هناك آباء أسسوها فالآن هناك عشرات الآلاف من الخريجين المنتشرين في العالم وعشرات الجهات الداعمة؛ فالجامعة لا تموت والفكرة والمنارة ستظل مشتعلة، ومتى انتهت هذه الظروف ستواصل الجامعة مسيرتها حتى تحت ظلال الأشجار وستنهض من جديد بأفضل مما كانت".
ومع الانفلات المستمر في الأوضاع بالخرطوم، يطول الإحراق والنهب عشرات الوجهات المهمة في الخرطوم، حيث شكا أصحاب مركز رتينة (مركز ثقافي مصغر) من تعرضه للكسر والنهب، كما حصد منشور دونته غادة فاروق كدودة ابنة القيادي الراحل بالحزب الشيوعي تفاعلا واسعا وهي تروي كيف أنها اضطرت لمغادرة منزل الأسرة بعد أن فشلت في البقاء والحفاظ على مكتبة والدها والمنزل الذي عاشت فيه ذكريات جميلة.