أصبحت القارة الإفريقية إحدى ساحات التنافس الدولي؛ فقد شهدت السنوات الأخيرة تناميًا ملحوظًا في وتيرة التغلغل الإقليمي والدولي في إفريقيا، وهو ما جعلها أحد أكثر المناطق تأثرًا بالحرب الحالية في أوكرانيا؛ حيث اعتمدت القوى الكبرى في تحرُّكاتها على القارة السمراء لتحقيق مصالحها وأهدافها المرتبطة بالهيمنة على السياسات والموارد، وكسب المزيد من النفوذ السياسي والاقتصادي والأمني؛ وذلك نظرًا لموقعها الجغرافي، وتعدُّد ثروتها الطبيعية التي تذخر بها؛ مما جعلها محلًا لتنافس إقليمي ودولي بين أقطاب القوى الدولية، وفي هذا السياق فإن الحرب الروسية الأوكرانية ما زالت تُلْقِي بظلالها على القارة الإفريقية، في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية.
ومن ثم، تمنح الحرب الحالية في أوكرانيا القارة الإفريقية مكانةً استراتيجيةً من أجل إبراز دورها وتعزيز مكانتها، فضلًا عن تحقيق مصالحها وأهدافها، وأهمها الحصول على مقعد أو مقعدين في مجلس الأمن الدولي، بالإضافة إلى الانضمام إلى عدد من المنظمات الدولية الكبيرة مثل مجموعة العشرين؛ حيث أصبحت إفريقيا جزءًا هامًّا في إدارة النظام الدولي، وهي شريك رئيس للقوى الدولية المختلفة في قضايا متعددة.
استقطاب غربي لدول القارة الإفريقية:
وتمثل ذلك في الأتي:
1- تشكيل مجموعة من التحالفات مع الدول الإفريقية:
تتسارع القوى الدولية بشكل واضح لتشكيل مجموعة من التحالفات الواسعة مع الدول الإفريقية، ذلك بهدف كسب الكتلة التصويتية للدول الإفريقية في الأمم المتحدة، والتي تتجاوز 25% من إجمالي الدول الأعضاء في الجمعية العامة بها، وهو ما يمنحها ثِقلًا سياسيًّا دفَع روسيا والدول الغربية إلى محاولة لاستقطابها من أجل الاصطفاف خلف أيٍّ من المعسكرين، فعقب اندلاع الحرب الأوكرانية، سعت العديد من القوى الدولية إلى بذل مزيد من الجهد للتقرب من دول القارة الإفريقية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وروسيا وألمانيا، من خلال قيام مسؤوليهم وهم وزير الخارجية الصيني تشين جانج، وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، ووزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين بزيارات وجولات إفريقية بدأت خلال العام المنصرم 2022م واستمرت في العام الحالي 2023م.
2- الاستفادة من القيمة الاستراتيجية للقارة الإفريقية:
يرجع انخراط روسيا في شؤون القارة الإفريقية إلى الحقبة السوفييتية، فخلال خمسينيات القرن الماضي، قدَّم الاتحاد السوفييتي الدعم لحركات التَّحرُّر في أنحاء القارة الإفريقية، فمنذ 2014م، خاصة بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، سعت "موسكو" لإيجاد موطئ قدم لها في إفريقيا عن طريق إبراز نفسها كوسيط أمني لمواجهة "الإجماع الغربي" وتصدير نفسها في صورة "المدافع عن إفريقيا"، لمواجهة خطر العزلة الدولية، والبحث عن حلفاء جدد، فاستطاعت روسيا في حربها ضد أوكرانيا الاستفادة وتحقيق مكاسب، من خلال توطيد علاقاتها بالدول الإفريقية من الناحية الدبلوماسية؛ فإفريقيا في المجمل لديها أكثر من ربع الأصوات في الجمعية العامة بالأمم المتحدة، وبإمكانها أن تُمثِّل صوتًا جمعيًّا قويًّا في المنظمات الدولية الأخرى، وبالتالي في أقل من عشر سنوات استطاعت "موسكو" فرض استراتيجيتها ورغبتها في أن تصبح قوة مُنافِسَة، ولا سيما بعد انتشار قوات فاغنر في سبع دول إفريقية، وعززت حضورها بالمنطقة من خلال قمة سوتشي في عام ٢٠١٩م، وما نتج عنها من توقيع العديد من الاتفاقيات مع معظم دول القارة، مكَّنتها من أن تصبح أكبر مُصدِّر للسلاح للقارة.
3- محاولة "بكين" توسيع نفوذها في القارة الإفريقية:
بدأ عام 2023م بأول زيارة رسمية لوزير الخارجية الصيني تشين جانج للقارة الإفريقية مستهدفًا دول (إثيوبيا والجابون وبنين وأنجولا ومصر)، وقد استهل زيارته لتسويق الصورة القومية لـ"بكين"، باعتبارها أكبر دولة نامية في العالم، فعلاقاتها بإفريقيا تقوم على أساس الندّية والمشاركة والتركيز على المصالح الاقتصادية، وقد أتت تلك الزيارة في أعقاب بعض التطورات الحاسمة؛ أبرزها المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الصيني الذي عُقد في أكتوبر 2022م؛ وانتهاءً بالدورة الثامنة لمنتدى التعاون الصيني-الإفريقي الذي عُقِدَ في "داكار" في نوفمبر 2022م، وقد تم خلاله اعتماد خطة عمل "داكار" (2022-2024م).
4- استمالة "أوكرانيا" للرأي العام العالمي والإفريقي:
ظهر ذلك جليًّا خلال زيارة وزير خارجية أوكرانيا للقارة الإفريقية، وهي الأولى من نوعها في أكتوبر 2022م، والتي شملت دول (السنغال وكوت ديفوار وغانا وكينيا)، فقد أشار إلى إمكانية إمداد الدول الإفريقية بمزيد من الحبوب والقمح في محاولة لاستمالتها.
محاولات غربية لحشد إفريقي:
ومن صوره المعلومة الأتي:
1- وعود غربية متصاعدة:
ومن ثم، تصاعدت الوعود الغربية لدول القارة بدعم الحق الإفريقي في التمثيل الدائم في مجلس الأمن الدولي عقب اندلاع الحرب الأوكرانية؛ حيث جاءت الوعود الغربية في محاولة لمواجهة الأفكار التي تُدشّنها كلٌّ من روسيا والصين مفاداها بأن النظام العالمي غير عادل، وكذلك لمواجهة الخطاب الذي تتبنَّاه الدولتان لمنح حق التصويت لجنوب العالم، فهناك اتهامات مُوجّهة من قبل الدولتين لأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية بعرقلة ذلك، مما أدى إلى تقليص شرعية النظام العالمي.
2- دعم أمريكي بتمثيل دائم لإفريقيا في مجلس الأمن:
يمكن استعراض نتائج القمة الأمريكية الإفريقية التي عُقِدَت في ديسمبر 2022م، والتي أعلن الرئيس الأمريكي "جو بايدن" خلالها الدعم الأمريكي للتمثيل الدائم لإفريقيا في مجلس الأمن، بالإضافة إلى انضمام دول القارة الإفريقية إلى مجموعة العشرين بشكل دائم، وهي الخطوة التي كان الرئيس السنغالي ورئيس الاتحاد الإفريقي "ماكي سال"، قد طالَب بها خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في الفترة الأخيرة.
وفي هذا السياق، ومن خلال تلك الشواهد فمن المرجَّح أن يصبح دعم التمثيل الإفريقي الدائم في مجلس الأمن الدولي بمثابة الاختبار الحقيقي للشَّرَاكات في القارة، وهو ما يُلقِي بظلاله على القمة الروسية الإفريقية المزمع انعقادها في يوليو 2023م.
استفادة إفريقية من الحرب الأوكرانية:
وتحقق ذلك من خلال الأتي:
1- مساعدات اقتصادية:
حاولت الدول الإفريقية الاستفادة من المساعدات الاقتصادية والقروض جراء التنافس الدولي على القارة خلال الحرب الروسية الأوكرانية من خلال استقبال المزيد من المساعدات الاقتصادية والتنموية والقروض؛ حيث أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في 15 ديسمبر 2022م عن عدد من المبادرات للتعاون مع إفريقيا، أهمها التخطيط لاستثمار ما لا يقل عن 55 مليار دولار في القارة الإفريقية على مدى السنوات الثلاث المقبلة.
2- مبادرات غربية للتعاون مع القارة الإفريقية:
كما أعلنت "واشنطن" عن توفير أكثر من مائة مليون دولار؛ لتوسيع مبادرة القادة الأفارقة الشباب بهدف دعم الابتكار والتميز للشباب الأفارقة، ودعمها للاتحاد الإفريقي للانضمام إلى مجموعة العشرين كعضو دائم، وإعلان مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأمريكية (DFC) عن استثمارات جديدة بقيمة 369 مليون دولار في جميع أنحاء إفريقيا في مجالات الأمن الغذائي والبنية التحتية للطاقة المتجددة والمشاريع الصحية، بالإضافة إلى دعم مبادرة التحول الرقمي مع إفريقيا (DTA) من أجل توسيع الوصول الرقمي ومحو الأمية عبر القارة من خلال استثمار أكثر من 350 مليون دولار.
3- النفط الإفريقي بديل للنفط الروسي:
وفي هذ السياق، وفيما يتعلق بملف الطاقة؛ مهَّدت الحرب الروسية الأوكرانية الطريق أمام الدول الإفريقية للاستفادة الكبرى من النفوذ في سوق النفط والغاز العالمي والطاقة ليصبح بديلًا عن النفط الروسي، خاصةً خلال الطلب المتزايد على الطاقة في العالم، والذي كان له دور مُهمّ في ارتفاع أسعار النفط، ومِن ثَم، ترتب عليه تزايد الأهمية الاستراتيجية للنفط الإفريقي خلال الآونة الأخيرة؛ حيث احتل مرتبة متقدمة على رأس أولويات سياسات القوى الدولية الفاعلة المتعلقة بتأمين الطاقة، والتي عزَّزت أهمية المناطق الغنية بالنفط والغاز الطبيعي لا سيما قارة إفريقيا.
وبناء على تقديرات وكالة الطاقة الدولية التي يقع مقرها في باريس، فإنه يمكن لإفريقيا ككل أن تُعوّض ما يصل إلى خُمس صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا بحلول عام 2030م؛ حيث أشارت تقديرات الوكالة إلى أن هناك 30 مليار متر مكعب إضافية من الغاز الإفريقي يمكن أن تتدفق إلى أوروبا سنويًّا.
ختامًا، يمكن القول: إنه بعد مرور أكثر من عام على اشتعال الحرب الحالية في أوكرانيا، لا تزال القوى الدولية تحاول التقارب مع دول القارة الإفريقية؛ وذك لتعويض خسائرها من الحرب عبر توقيع العديد من الاتفاقيات الثنائية، خاصةً بالتعاون في مجال الطاقة والسلاح، ومحاولة استقطاب الدول الإفريقية لأحد المعسكرين (الشرقي/ الغربي)؛ حيث لا تزال خسائر الحرب تَستنزف الكثير من موارد القوى الدولية في الوقت الذي باتت تدرك هذه الدول أن إفريقيا تمثل مستقبل الاقتصاد العالمي، وأنها سيكون لها دور في تشكيل هذا المستقبل عبر تحالفات دولها على المستوى الدولي.
وبطبيعة التحالفات القائمة؛ فقد أشارت بعض من التقديرات إلى أن الحرب الراهنة في أوكرانيا، بالإضافة إلى تصاعد حدة التوترات بين روسيا من ناحية والولايات المتحدة والغرب من ناحية أخرى، ستُمثِّل اختبارًا مهمًّا لشبكة التحالفات الراهنة في القارة الإفريقية، خاصةً في ظل النفوذ المتصاعد لـ"موسكو" في القارة الإفريقية خلال السنوات الأخيرة، ورفض الدول الإفريقية خروجها من القارة الإفريقية.
----
*نداء كسبر - باحثة في العلاقات الدولية