فرنسا ومالي.. مساحة التباعد السياسي إلى أين؟

خميس, 02/17/2022 - 18:50
 بقلم: حمدي جوارا – كاتب وباحث في القضايا الإفريقية

من المتوقع اليوم أن تعلن فرنسا رسميا سحب قواتها من مالي بعد وجود فيها دام ما يقرب من عشر سنوات، بسبب المناكفات السياسية والاعلامية بين البلدين انتهت بقطع العلاقات ولو على مستوى السفراء على الأقل منذ أسابيع.

 

وقد تحدثنا سابقا عن أسباب الأزمة وتفاصيلها وطرحنا سيناريوهات عدة في مقال سابق؛ وكان انسحاب القوات الفرنسية من بينها وخاصة حين تصر باريس على موقفها المعادي من حكام باماكو الذين يصفهم باريس بالحكومة المولّدة من انقلابَين ويقصدون بها حكومة الدكتور شوغيل كوكالا مايغا والذي فجر الأزمة السياسية عبر اتهام فرنسا بترك مالي محلقة في أروقة الأمم المتحدة منذ 3 أشهر.

 

وجهة نظري من كل ما حصل هي أن فرنسا كانت قد امتعضت من الحرب في مالي بسسب النتائج الغير مرضية التي عبّر عنها الشعب عدة مرات في مظاهرات وكذلك عبر مواقف من أحزاب وشخصيات مالية، أدى ذلك إلى دخول مالي في مفاوضات مع الروس وأجنحة دولية أخرى.

 

ورغم هذا الامتعاض الذي ذكرته إلا أن موقف السلطات المالية الحالية من تنويع علاقاتها العسكرية والأمنية هذا لم يرق فرنسا صراحة، لأنها تعرف جيدا أن هذه الخطوة تعني إعلانا غير مباشر بأن عملياتها بالفعل قد فشلت وأن دورها في مالي أصبح على المحك.

 

ولذلك سارعت لاتهام مالي بالتعامل مع فاغنر الروسية وذلك لتشويه صورة سلطات باماكو الحالية حتى تشارك عبر الضغط السياسي والضخ الإعلامي من أجل ثني مالي من مواصلة هذا الطريق.

 

ويبدو أن فرنسا أخطأت في حساباتها في تقدير الموقف وخاصة أنها لم تعرف الرجل السياسي المحنك الذي أمامه ولم تدرس آراءه السياسية من قبل وأقصد بالتحديد رئيس الحكومة الحالي السيد مايغا الذي يعتبر الأخطبوط السياسي لمالي الحديثة.

 

وأتذكر له مقابلة تلفزيونية في عام ٢٠١٨ م حيث قال فيها: بعد عرضها لجغرافيا الأزمة السياسية في شمال البلاد، ذكر: أن مالي ستجد من أبنائها من يعيد لها هيبتها وكرامتها ليس في المنطقة وإنما في العالم.

 

والذي يتابع المسار السياسي للرجل من ذلك الوقت يجد أن كل شيء يسير فيما يخططه الرجل .. خطأ فرنسا أنها لم تحسب بهذا الرجل حسابها ولذلك فإن مواقفه وردوده هو ووزير خارجيته كانت بمثابة طعنة لجبروت فرنسا وكسر صورتها الدولية كدولة عظمى في أعين العالم.

 

ليس هذا موضوعنا فقط لكي أخبركم مدى الصدمة التي حصلت في فرنسا أو في مستوى الطبقة السياسية الفرنسية كلها من أن مستعمرة لها سابقة ومن دولة تعيش أزمات سياسية منذ ١٠ سنوات ؛  تقف لتواجهها بهذا الشكل عينا بعين وسنا بسن كما قيلولنعد لخروفنا كما يقال ، ففرنسا ستخرج من مالي وستنشر قواتها في حدود مالي وغيرها  وفي دول مثل تشاد والنيجر والتي ستقدم لها كل الامكانات اللوجستية والعسكرية كي تحارب الارهاب في المنطقة ، والغريب أن هذا الارهاب لا يمكن محاربتها إلا  من خلال مالي فكيف ستنجح في هذه الدول ما فشلته في مالي..

 

 ثم ما هو الضمان لها أن شعوب هذه البلاد لن تخرج غدا في مظاهرات ضد وجودها وخاصة اذا اتسعت رقعة الارهاب فيها تماما كما حصل في مالي.. ومع ذلك حتى هذا الانتشار في هذه البلاد لا يعني أنها ابتعدت نهائيا وخاصة أن الشمال ليست كلها في سيطرة الحكومة المركزية وإن كان هناك تفاعلا كبيرا مع وصول قوات روسية القاعدة الفرنسية في تومبكتو.

 

وليس هناك أي ضمان أن المتمردين السابقين في كيدال سيقفون ضد سلطات باماكو وإن كانوا يدعون حاليا للحوار ويشاركون في الحكومة ولكن لم يتركوا السلاح ولم يتم نزعه من أيديهم حتى الآن.

 

وأتمنى أن يكون خروج القوات الفرنسية فرصة للاخوة في كيدال كي يلملموا الشكل ويضمدوا الجراح…ولتكون خطوة مهمة لباماكو كي يتحاور الأشقاء في تلك المدينة وتعود المياه إلى مجاريها ويرقّ الثوب الوطني الممزق.

 

 ولا أعتقد أن فرنسا ستترك الأمور هكذا دون محاولة لتأجيج الصراع من جديد فالحذر الحذر. وعودا على بدء كنت قد ذكرت أن فرنسا كانت قد امتعضت من البقاء في مالي وكانت هناك حملات إعلامية داخل فرنسا في مدى جدوائية بقاء قواتها في مالي وتصريفها الأموال الطائلة في حرب لا نهاية لها وكان الرأي العام الفرنسي يسأل رئيسهم في ذلك …وحينها وعد ماكرون بتقليص العدد وهو ما تمّ بالفعل حين أعلن تقليص عدد الجنود من ٥ آلاف إلى نصف هذا العدد.

 

ولذا اشتكى الوزير الأول من ذلك التصرف الأحادي الجانب واعتبر أن الانسحاب لم يكن ليتمّ من جانب واحد ومن فرنسا دون مشاورة باماكو كي تحاول بسط نفوذها في المناطق التي ستتركها فرنسا ..لكن لم تعجبها أبدا أن تعلن مالي ذلك  عبر وغيرها الاول وخاصة في منصة كبيرة كمنصة للأمم المتحدة …ولذلك أزعم أن هذا الانسحاب الذي يتم اليوم في ظاهره الاحتجاج والرفض لكن في باطنه الرضا والقبول .

وحاليا ليس هناك أمل في المستوى القريب لتهدئة الموقف إلا إذا غيرت فرنسا سياساتها المهينة لسلطات باماكو وسعيها في تأليب مؤسسات إقليمية ودولية ضد مالي بحكم نفوذها القوي فيها ومن ثم محاولة تغيير لهجة وزير الخارجية لودريان  والذي يصر على التمادي في خط المواجه والشجب ووصفهم بالانقلابيين غير الشرعيين .

 

هذا وقد بدأت أصوات سياسية في فرنسا تنتقد إدارة الصراع مع مالي والوقوف في برج عاجي من باماكو وتقديم الدروس الديمقراطية والانتخابات لمالي وقد ذكره رئيس الوزراء الاسبق دومينيك دوفيلبان منذ يومين وما لم يتم ذلك فليس ثمّ حل في الأفق القريب.

 

أما لصالح من سيتم هذا الانسحاب فأكيد أنها لصالح سلطات مالي اليوم لأنها توظف النزعة الوطنية للهجوم على فرنسا وهي متأكدة أن لها ظهيرا شعبيا في ما تقول بها من خطوات ..

 

 وأن الشعب يريد ازالة الشعور باالاهانة والعار تجاه التلاعب السياسي الذي تقوم بها فرنسا ليس مع حكام مالي فقط وإنما نظرتها الاستعلائية تجاه دول المنطقة…وتتذكرون معي أنها استدعت رؤساء دول الساحل في قمة بو كي يوضحوا موقفهم من قوات برخان وكأن مديرا يستدعي موظفيها لاجتماع عاجل.

 

وأعتقد أن دعوة كهذه لم تتم هذه المرة رغم خطورة الوضع الحالي وإنما ضغطت سلطات باماكو حتى سحبت نفسها بنفسها من غير أن تطلب مالي رسميا ذلك وهذا قمة في النجاح السياسي والتعاريف البراغماتي دبلوماسيا.

 

وثانيا: قد يستغل الإرهابيون خروج فرنسا نجاحا لهم وأنهم بسبب ضغوطهم على الأرض فقد منعوا فرنسا من أي انتصار يذكر؛ ولهذا صنعوا مزيدا من كراهية فرنسا في قلوب الماليين والأفارقة معا.

 

وهذا الطرح هو هو فقط ما كانت تتفاداها فرنسا مهما كان الثمن  ..لكن كما يقال: لا بدّ مما ليس منه بدّ ، وسينسحبون عن مضض  في حين أن تلم نفسها وترتب أوراقها من جديد وأتوقع عودة  السفراء بعد الانتخابات الفرنسية  ..

 

وحينها سنرى هل ستغير فرنسا موقفها ورؤيتها السياسية من جديد حول سلطات مالي؟

 

وسنرى هل تحاول عرض مقاربة جديدة في المسألة المالية والافريقية؟ ..

أما حاليا فأعتقد أنها فقدت الكثير من الأصدقاء في القارة الافريقية.