من ذكريات الضفة : الحلقة الثامنة : ثانوية روصو

جمعة, 01/29/2021 - 19:10

بعد رحلة انتجاع قادتنا إلى "بَرْوَيتْ"  (اغنجاييت– الجديده - التيسير) و"الخط"  (بئر السلامة) نعود إلى الضفة والعود أحمد ولست في انتجاعي بدعا فقد دأب أهل الضفة على الانتجاع في بعض المواسم .
في هذه التدوينة ستكون الذكريات عن ثانوية لكوارب=روصو وسأحاول إعادة شريط الذاكرة إلى الوراء لأروي لكم بداية قصتي مع الضفة .
ألفت انتباه القارئ الكريم أن ما أكتبه تحت هذا العنوان ليس واردات كما للسادة الصوفية ولا صيد خاطر كما لابن الجوزي ولا مذكرات كما للساسة والمفكرين ولست فيها شاهدا على العصر وإنما هي خواطر مدرس أشرف على التقاعد لم يزل يقدم رجلا و يؤخر أخرى في إخراجها فالحديث ذو شجون والذاكرة خؤون والقريحة قريحة والمصادر شحيحة والعهد قد طال وحالت دون ما يرومه الأشغال .
وأقول لمن يرى أن هذا بكاء أطلال بوالي وحنينا إلى عصور خوالي قول لمرابط امحمد بن أحمد يوره رحمه الله :
حكم الزمان وحكمه لن ينقضا=أن لا يعود من الصبابة ما مضى
ما لي إذا جئت "العباب" مسلما=لام العذول مصرحا ومعرضا
وإذا وقفت على "البليل" وربعه=جعلتني العذال "ذئبا أبيضا"
ومن المعروف أن هذه الثانوية معلمة بارزة وقلعة عتيدة من أعرق المؤسسات التربوية في البلاد إن لم تكن أقدمها حيث تأسست سنة 1947 وكانت تعرف بإعدادية "كبلاني" وقد تخرجت منها أجيال كثيرة منها ثلاثة رؤساء للبلاد هم  محمد خونه ولد هيداله، ومعاوية ولد سيد أحمد ول الطايع وسيدي ولد الشيخ عبد الله رحمه الله  والعديد من الوزراء والأطر.
ولا شك أن لكل من مر بهذه المدرسة ذكريات جميلة ولاغرو أن كان لسان حاله ينشد قول الشاعر بهاء الدين زهير:
يحدثني زيد عن البان والحمى=أحاديث يحلو ذكرها ويطيب
فقلت لزيد إنها لبشارة=وإني لنشوان بها وطروب
فيا زيد زدني من حديثك إنه =حديث عجيب كله وغريب
ودعني أفز من مقلتيك بنظرة=فعهدهما ممن أحب قريب
وقول الملك الناصر داود بن المعظم :
يا راكبا من أعالي الشام يجذبه =إلى العراقين إدلاج وإسفار
حدثتنا عن بلاد طالما قضيت=للنفس فيها لبانات و أوطار
كرر على نازح شط المزار به=حديثك العذب لا شطت بك الدار
وعلل النفس عنهم بالحديث بهم=إن الحديث عن الأحباب أسمار
ليست مدينة لكوارب=روصو بالنسبة لي كما قال الشاعر:
بلاد بها نيطت علي تمائمي =وأول أرض مس جلدي ترابها
ولكن ربطتني بها وبثانويتها على الخصوص صلات وثيقة فقد دَرَسْتُ فيها أربع سنين وتغيبت عنها ست سنين ثم عدت إليها ولسان حالي ينشد قول مؤرخ البلاد الأستاذ الأديب المختار بن حامدن رحمه الله  في مقدمة مقامته الأطارية  " لما أختار المختار التوجه إلى أطار في صورة أستاذ معلم وهو في الحقيقة تلميذ متعلم " .
فقد عدت إليها بعد فرقة دهر حيث حولت إليها بعد التخرج من المدرسة العليا لتكوين الأساتذة 1987 صحبة ثلاثة من الزملاء هم محمدن=ادن بن سيد محمد بن الحسن ومحمد يحي بن محمد عالي وأحمدُّ امبيريك بن محمد عبد الله وكنا أول طاقم وطني يدرس الفيزياء والكيمياء باللغة العربية في المؤسسة فقد كان يدرسها قبلنا أساتذة من الدول العربية الشقيقة وقد أشرت إلى ذلك في أبيات حيث قلت :
كان بمدرسة تكوين الأســـــــــاتذة مربع لنا قد درسا
طاب الثوى به سنينا أربعا =أكرم بمربع العلوم مربعا
صاح غراب البين بالأحبة = يوم التخرج من المدرسة
ففرقت بينهم الأقدار=وصار في جمعهم انكسار
فكان تحويلي إلى "القوارب" = مع ثلاثة من الأطايب
وهم محمد حفيد الحسن =وهو الملقب ب "ادن" السني
واعدد محمدْ يحي ذا المعالي=سلالة الندب محمدْ عالي
وأحمد امبيريك ذا الفضل اذكر=نجل محمدْ عابد الله السري
كنا بمدرسة "كبلاني" = أول من بلغة القرآن
دَرَّسَ علم الفيزيا والكيميا=طوبى لمن للضاد كانوا أوفيا
فَدَرَّسْتُ فيها أكثر من عقدين من الزمن ولله الحمد .
كانت بداية القصة في العام الدراسي 1977- 1978 حيث دخلت فيها السنة الأولى إعدادية ومن المفارقات أن تكون هذه السنة هي السنة الأخيرة من حكم الرئيس المؤسس أبي الأمة وابنها البار- كما كنا نسميه- الأستاذ المختار بن داداه عليه شآبيب رحمة الله وهي أيضا السنة الأخيرة من إدارة الأستاذ محمد بن سيديا عليه رحمة الله لهذه المؤسسة .
فقد أدركنا إذن سنة واحدة من حكم ذلك الرعيل الأول الذي يصدق فيه قول الحطيئة يمدح آل شماس بن لأي :
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا=وإن عاهدوا أوفوا و إن عقدوا شدوا
يسوسون أحلاما بعيدا أناتها=وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم=من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
وتعذلني أبناء سعد عليهم =وما قلت إلا بالذي علمت سعد
كان ابن سيديا رحمه الله من أهل العدل والاستقامة يشهد له بذلك القاصي والداني وكان حسن السمت يلبس البدلة المدنية وتعلوه هيبة ووقار وكان مدير الدروس افاصا ممدو والمراقبان العا وآن آلاسان مان وعبد الرحمن بن رافع رحمه الله وكان المقتصد محمد يسلم بن معاويه ومساعده أحمد سالم بن حبيبي رحمهما الله وكان هناك مراقبون منهم محمد سعيد بن اشفغ ومحمد الأمين بن عتاك وأحمدُّ بن عثمان والشيخ سيداتي كمرا رحم الله من مات منهم وأطال أعمار الباقين في طاعته .
وكان الطلاب في ذلك العهد يحترمون الأساتذة احتراما شديدا كما يحترمون الإدارة فقليل منهم من يتجرأ على دخول قاعة الأساتذة أو دخول مكتب المدير وعلى العموم فقد كان المجتمع يقدرالمعلم متمثلا قول أحمد شوقي رحمه الله :
قف للمعلم وفه التبجيلا=كاد المعلم أن يكون رسولا
وذلك يوم كانت الأخلاق هي العقد الناظم لقيم المجتمع أما اليوم وقد طغت القيم المادية فإن المعلم يصدق عليه قول الشاعر :
لقد هزلت حتى بدا من هزالها =كلاها وحتى سامها كل مفلس .
كان الطلاب في الثانوية ينقسمون إلى قسمين :
-الطلاب الداخليون وهم الطلاب الذين يسكنون في المؤسسة ويخضعون لنظام شبه عسكري صارم حيث تحدد لهم أوقات الأكل والنوم والاستيقاظ وتفرض عليهم المراجعة الليلية وأي تلميذ خالف هذا النظام فإنه يعاقب ويحرم من قضاء عطلة نهاية الأسبوع خارج المؤسسة .
-الطلاب الخارجيون وهم الطلاب الذين يسكنون خارج المؤسسة وهؤلاء ينقلون في شاحنة كبيرة مزودة بسلم يطلق عليها عرفا اسم "الكار" وله ثلاث وقفات أو محطات , الوقفة الأولى في "اسكال" قرب السوق المركزي والوقفة الثانية في "مدينة" قرب سينما مدينة أما الوقفة الثالثة والأخيرة ففي " انجربل " عند نهاية الطريق المعبد وقبل منعرج الثانوية ومن فاته "الكار" فقد فاته القطار كما قال ذات مرة أحد الزعماء العرب أيام موضة الربيع العربي .
ورغم أن ظروف نقل الطلاب لم تكن مواتية فإن فضول المراهقة يحولها إلى نوع من المغامرة المسلية فتراهم يتدافعون عند صعود "الكار" وعند الهبوط منه كما ترى بعضهم يتسلقه من الجانبين والحال منه منشدة قول الشاعر :
خذا بطن هَرْشَى أو قَفَاهَا فإنه =كلا جانبي هَرْشَى لهن سبيل
وإذا أخذ "الكار" المنعرج وسلك الطريق غير المعبد وسد الغبار الأفق وكان المشهد كما صوره ابن محمدي رحمه الله بعدسته الصَّنَاعِ :
والخيلُ ثائرُ نقعِها من نسجه =وجهُ الغزالةِ مُدْرَجٌ في بُرْقُعِ
تراهم ينتشقون الغبار المثار وَرْدًا كما انتشق ابن الشيخ سيدي رحمه الله غبار ميمونة السعدي :
وتُذرِي علينا الرامسـاتُ غبارَهـا= فننشقه من حـب إصلاحهـا وردا
كان سائق "الكار" رجلا هادئا صبورا يسمى مَانْكَرْ عليه رحمة الله لا يحل حبوة حلمه جهل الجاهلين ولا يستفزه شغب المشاغبين .
وقد قلت في "الكار" في هذه السنة أبياتا من بواكير ما قلت من "بوسوير" أذكر منها :
عجل فطورَك إنَّ "الكار" مِبكار=وانهض لخوض حياة هي أسفار
وجمعنْ أدواتِ الدرس من قلم =ودفتر لدخول الفصل تختار
تنبيه : أشار إلي بعض الأصدقاء أن أوقع ما أكتبه في هذه الصفحة فأجبته إلى ذلك مع علمي أن النحاة يقولون إن الإضافة  إلى النكرة لا تكسب المضاف تعريفا وإنما يسمونه نكرة مخصوصة وهي واسطة بين منزلتين .
للحديث بقية إن شاء الله .
طابت أوقاتكم
انَّ حامدن امَّحْ