جوانب من تراث التكرور الإِسلامي بمدينة القَاهِرة

خميس, 01/28/2021 - 10:48

 

صارت مدينةُ القاهرة قِبْلَة الزُّوار القادمين إلى أرض مصر من كلّ بقاع القارة الإفريقية خلال "التاريخ الوسيط"؛ لا سيما بعد أن انتقلت "الخلافة الإسلامية" إليها أيام "دولة المماليك" (648-923هـ). كما ازدادت أهميةُ المدينة، وذاع صيتُها في شتَّى بلاد العالم الإسلامي، بفضل عدة عوامل منحتها تلك الخُصوصية بين سائر المدن الإسلامية آنذاك؛ ولعل منها: "رحلة الحج" التي كان يقوم بها الحُجَّاج الأفارقة إلى الحجاز، وكان عليهم أن يتوقفوا بالقاهرة انتظارًا لـ"موكب الحج" المصري، وكذلك بفضل "الأزهر الشريف" الذي أضحى منارة العلم والعلماء في العالم الإسلامي منذ تأسيسه سنة 359هـ، وكان ذلك في ذات السنة التي بُنِيَتْ فيها القاهرة

وكان أهلُ التكرور، ويُقْصَد بهم في الغالب سكان غرب إفريقيا، من أكثر شعوب الممالك الإفريقية في جنوب الصحراء التي أقبلت على القدوم إلى القاهرة رغبةً في الحج، أو طلبًا للعلم، أو لمآرب أخرى، ومن ثَمَّ استقرت أعدادٌ كبيرةٌ منهم بالقاهرة، وصار لهم حيٌّ حمل اسمهم، وهو "حي التكرور"، أو "بولاق التكرور" الذي صار بعد ذلك: "بولاق الدكرور"، وغير ذلك من مظاهر التُّراث التكروري الموجود بالقاهرة، وهو الموضوعُ الرئيس لهذه المقالة التي تُحاول الغوص في "تراث التكرور"، وإماطة اللثام عما تركه هذا الشعب الإفريقي المسلم من تأثيراتٍ جلية لا تُخطئها العين في هذه المدينة الإسلامية العتيقة، وهو ما يُضيف تنوُّعًا ثقافيًّا، وتراثيًّا، وكذلك ديموجرافيًّا فريدًا بمدينة القاهرة، وهو ما يشهدُ دون مراء لهذه المدينة العظيمة، وأهلها بمقدرة لافتة على احتواء الآخر.

وسوف تتناول هذه المقالةُ ذلك الموضوع من خلال المحاور التالية:

أولاً- نُبذة عن بلاد التكرور.

ثانيًا- حيّ بُولاق التكرور بالقاهرة.

ثالثًا- قدوم عُلماء التكرور إلى القاهرة.

رابعًا- مدرسة التكرور بالقاهرة.

خامسًا- رُواق التكرور بالأزهر الشريف.

 

أولاً- نُبذةٌ عن بلادِ التَّكرور:

يُعتقد أن تسمية "التكرور" في الأصل أطلقتها جماعاتٌ من "صِنهاجة"، وهي قبيلةٌ بربريةٌ استقرت في مناطق شمال إفريقيا، وبلاد المغرب منذ ما قبل الإسلام، ثم هاجرت جماعاتٌ من صنهاجة إلى بلاد "التكرور" بعد استقرار الإسلام في بلاد شمال إفريقيا([2]). وكان اسمُ "التكرور" يُشير بدايةً إلى تجمعاتٍ قروية في إحدى الإمارات الواقعة في أقصى شمال "السودان الغربي"، وغير بعيدٍ عن مَصبِّ "نهر السنغال"، وهو ثاني أكبر الأنهار في مناطق غرب إفريقيا بعد "نهر النَيجر"(

وتذكر المصادرُ أن أول ملك تكروري اعتنق الإسلام، كان يُدعى: "وارجابي بن رابيس"([5])، وهو يُعتبر في ذلك الوقت أقدم الملوك في تاريخ بلاد "السودان الغربي" (غرب إفريقيا) الذين أسلموا قبل قدوم "المُرابطين" (448-541هـ) إلى هذه البلاد، أو ما يُعرف بمرحلة "الغزو المرابطي" لبلاد السودان الغربي([6]). ويذكر المؤرخ القلقشندي (ت: 821هـ)، وغيره من المؤرخين القدامى بلاد غرب إفريقيا باسم: "بلاد التكرور"([7]).

كما يُفرّق "القلقشندي" بشكلٍ واضحٍ بين مدلول كُلّ من "مملكة مالي" و"بلاد التكرور"، ومن ثَمَّ يُحدِّد أيضًا موقع هذه البلاد؛ حيث يذكر "القلقشندي" أنَّ "بلاد التكرور" تقع إلى الشرق من "إقليم كوكو"([8]). وهذا الإقليمُ الأخير من الأقاليم الكبرى في غرب إفريقيا([9]). وعلى أية حال يُكتب اسم "بلاد التكرور" بفتح "التاء" المُثناة فوق، وسُكون "الكاف"، وضم "الراء" المُهملة، وسُكون "الواو"، ثم "راء" مُهملة في الآخر([10]).

ويُرجّح الباحثُ أن اسم "بلاد التكرور" كان يُطلَق بصفةٍ عامة على كلٍّ من "مملكة مالي" (596-874هـ)، و"مملكة صُنغي" (777-1000هـ)، وكذا "بلاد الكانم" أيام "دولة المماليك" (648-923هـ)، وهو الأمرُ الذي يتّضحُ بشكلٍ جلي من خلال روايات أكثر مؤرخي عصر المماليك القدامى، وحتى المتأخرين منهم. ومن اللافت قلة استخدام اسم "مالي" أو "صُنغي" على السواء في أكثر المصادر التي تُؤرخُ إلى تلك الحقبة، سواء لدى مؤرخي المماليك المُتقدمين منهم، أو حتى من جانب المُتأخرين منهم([11]).

ومن المعلوم أن لفظ "التكرور" يُشير لأحد الأقاليم الموجودة في بلاد غرب إفريقيا، ويوجد موضعه الآن ضمن أراضي دولة "السنغال" بالتحديد، ثم ذاع هذا الاسم (أي التكرور) بعد ذلك بفضل التجار العرب، وصار يُطلق على كل البلاد الواقعة في غرب إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وحتى تلك الموجودة في بلاد السودان الأوسط (تشاد حاليًا)، مثل "بلاد الكانم".

ومن أبرز المؤرخين الذين ذكروا اسم "التكرور"، سواءً للإشارة إلى مملكتي "مالي"، أو "صنغي"، أو على سبيل الإشارة إلى ملوك وحُكام هذه البلاد، والذي يرد باسم "ملك التكرور"، أو "سُلطان التكرور": "العُمري" (ت: 749هـ)، و"ابن كثير" (ت: 774هـ)، و"القلقشندي" (ت: 821هـ)، و"المقريزي" (ت: 845هـ)، و"الحافظ ابن حجر" (ت: 852هـ)، ويبدو ذلك واضحًا في حديثهم عن السلطان "منسا موسى" (712-738هـ)، وهو صاحب رحلة الحج المشهورة إلى بلاد الحرمين، وهو "سلطان مالي" ذائع الصيت، وهو الذي تذكره أكثر المصادر المملوكية بأنه: "ملك (أو سلطان) التكرور"([12]). وكذلك أورد ذات الاسم "جلال الدين السيوطي" (ت: 911هـ)، وهو يُعتبر من مُتأخري مؤرخي عصر المماليك، لما تحدث عن "سلطان صُنغي" في أيامه، وهو السلطان "أسكيا محمد" (899-935هـ)، والذي دعاه باسم: "سلطان التكرور، ولما زار "السيوطي" بلاد السودان الغربي دعاها أيضًا بذات الاسم؛ حيث يذكر في ترجمته: "وسافرتُ بحمدِ الله تعالى إلى بلاد الشام، والحجاز، واليمن، والهند، والمغرب، والتكرور.."([13]).

وعلى هذا لم يستخدم "السيوطي" لفظ "سلطنة صُنغي"، وهي السلطنة الإسلامية الكبرى المعروفة آنذاك، والتي كانت تسيطر على أكثر البلاد في غرب إفريقيا في ذلك الوقت. كما أن السيوطي ألف بعد ذلك "رسالةً" في العلوم الشرعية ردًّا على بعض "الأسئلة الفقهية" التي كانت قد جاءته من علماء وفقهاء بلاد غرب إفريقيا، وقد دعا "السيوطي" تلك الرسالة باسم: (فَتح المَطلَب المَبرور، وبَرد الكَبِد المَحرور في الجوابِ عن الأسئلةِ الواردةِ من التَكرور)([14])، وهو ما يؤكد ذات الاتجاه الذائع لدى مؤرخي عصر المماليك في استخدام لفظ "التكرور".

بل إن مؤرخي "السودان الغربي" يستخدمون هذه التسمية في مؤلفاتهم، ومن ذلك المؤرخ "ابن الطالب البرتلي" (ت: 1219هـ) في كتابه المعروف باسم: "فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور"([15])، ورغم أن أكثر العلماء والفقهاء من غرب إفريقيا الذين ترجم لهم "البرتلي" كانوا من "مملكة صُنغي". وعلى هذا، فلم يكن اسم "التكرور" ذائعًا في بلاد المشرق الإسلامي فحسب، بل كان معروفًا في بلاد السودان الغربي ذاتها. أما النسبةُ لهذه البلاد، فهي: "التكروري" (أو تكروري).

ومما قيل عن هذه البلاد في روايات المصادر، يقول "الحِميري" (ت: حوالي سنة 900هـ) في روايته: "تكرور: مدينةٌ في بلاد السودان بالقُرب من مدينة صنغانة (يُقصد: سلطنة صُنغي)، على النيل (أي: نهر النيجر).."([16]). وتذكر المصادرُ التاريخية من ناحيةٍ أُخرى أن القوافل التجارية كانت تُسافر إلى مدينة "تكرور" عبر دروب "الصحراء الكبرى" قادمةً من أسواق بلاد المغرب، وكانوا يحملون معهم العديد من البضائع والسلع لهذه البلاد، بينما كانوا يحملون من بلاد "التكرور" التبر (الذهب)([17])، وهو ما يُشير إلى ارتباط هذه البلاد بالذهب أيضًا. بينما يذكر المؤرخ "القلقشندي" (ت: 821هـ) عن مدينة "تكرور"، باعتبارها حاضرة الحكام في هذه البلاد؛ إذ يقول عن أحد الحكام هناك: "وقاعدته مدينة تكرور.. وهي مدينةٌ على النيل (يقصُد: نهر النيجر) على القرب من ضفافه أكبر من مدينة سلا من بلاد المغرب.."([18]).

وتُشير بعضُ المصادر إلى (بلاد التكرور)، وتُحددها بأنها تُمثل "الإقليم الخامس" من أقاليم "مملكة مالي"([19])، وهنا تبدو الغاية من ذلك للتفريق بين كل من لفظي "بلاد التكرور"، و"مملكة مالي"، وكذا دلالة كل منهما، وهو ما يؤكد أن "التكرور" ليست إلا أحد الأقاليم التي تقع ضمن تخوم "مملكة مالي"، ثم أُطلق لفظ الجزء (أي: التكرور) على الكل (أي: مملكة مالي)([20]). ومن المعروف أن عدد الأقاليم في "مملكة مالي"، ومن بينها "إقليم التكرور" كان يبلغ 14 إقليمًا، وقيل: إن عددها كان يبلغ 15 إقليمًا([21])، وهذا على غرار اختلاف عدد الولايات أو الأقاليم الإدارية في أيّ من البلاد من وقتٍ لآخر، وهذا يحدث حتى في أيامنا.

وتذكر بعضُ المصادر أن سلاطين مالي كانوا يغضبون إذا ناداهم البعضُ باسم "ملك التكرور"؛ لأنهم يرون أن ذلك تقليلاً من شأنهم؛ لأنَّ "التكرور" إقليمٌ من بين الأقاليم في بلادهم"([22]). وعن ذلك يقول العُمري (ت: 749هـ): "عند أهل مصر بملك التكرور، ولو سمع (أي منسا موسى) هذا أَنِفَ منه؛ لأن التكرور إنما هو إقليم من أقاليم مملكته، والأحب إليه أن يُقال: صاحب مالي.. ([23]).

وفيما يلي نُلْقِي الضَّوْء بشيءٍ من الإيجاز على حياة "التكاررة" (أو التكارنة)، وهم سكان بلاد التكرور، وبعض عاداتهم وتقاليدهم، كالطعام والثياب.. الخ. أمَّا الطعام الذائع لدى أهل "التكرور"، فكان في الغالب: السمك، والذرة، واللبن، وكانت أكثر المواشي التي يُقبلون على تربيتها: الإبل، والماعز([24]). أما لباسُ العامة في هذه البلاد فكان في الغالب "الصوف"، وكان السكان في بلاد التكرور يضعون على رؤوسهم كرازي الصوف، أما لباس كبار رجال القوم والخاصة منهم: فكان أبرزها "المآزر"، وكذلك الثياب المصنوعة من القطن([25]).

 

ثانيًا- حّي بُولاق التَّكرور بالقاهرة:

شهدت العلاقاتُ بين كلٍّ من حكام مصر من جانبٍ، وبلاد التكرور وملوكهم، وكذلك شعوبهم من جانب آخر تطورًا لافتًا إبَّان "العصر الإسلامي"، ويُعتبر عصرُ سلاطين المماليك (648-923هـ) من أكثر العصور الإسلامية ازدهارًا في مصر، وكذلك في بلاد الشام؛ حيث انتقلت "الخلافة العباسية" في ذلك الوقت لمدينة القاهرة أيام السلطان "الظاهر بيبرس" (658– 676هـ)، وسبب ذلك سقوط بغداد عاصمة الخلافة (العباسية) على أيدي المغول (التتار) سنة 656هـ، ومن ثم صارت القاهرة أيام دولة المماليك الحاضرة الكُبرى للإسلام"([26])؛ وهذا ما يوضحه كلام ابن خلدون (ت: 808هـ) لما وصل القاهرة للمرة الأولى؛ حيث قال: "فانتقلت إلى القاهرة أول ذي القعدة، فرأيت حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذرّ من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك.."([27]).

 كما لعب الأزهر دورًا مهمًّا في تأكيد مكانة القاهرة في ذلك الوقت؛ حيث صارت منارة العلم والعلماء آنذاك([28]). ومن ثم كان العلماء وطلبة العلم يحرصون على القدوم إلى القاهرة، ومنهم من آثر الاستقرار بها، وكان منهم بالطبع طلاب العلم القادمين من "بلاد التكرور". ومن جانب آخر كان موكب الحج المصري يستقطب أعدادًا كبيرة من شعوب إفريقيا للقدوم إلى القاهرة لمرافقة موكب الحج. ويرى الباحثُ أن "التكاررةُ" (أو التكارنة)، وهم سكان "بلاد التكرور"، كانوا من أكثر الشعوب التي كانت تسكن الممالك الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى حرصًا على الاستقرار بالقاهرة مدة من الزمن، وذلك يبدو جليًّا من خلال الجاليات التكرورية التي أقامت بالقاهرة. وكانت تلك المدة تختلف حسب كل واحدٍ منهم، والغاية التي جاء من أجلها؛ فمن هؤلاء "التكاررة" من أتى مرافقًا لـ"موكب الحج" المصري الذي كان يبدأ من القاهرة، ومن ثَمَّ يذهب تحت إمرة "أمير الحج" إلى بلاد الحرمين الشريفين([29]). بينما كان البعضُ الآخر من شعب التكرور يأتي للقاهرة من أجل طلب العلم، وليأخذ العلوم الدينية والشرعية على أيدي كبار علماء مصر الذين يصفهم ابنُ خلدون بأنهم كواكب الدنيا([30]).

وقد كان من "التكاررة" من يُؤثر الإقامة بالقاهرة بعد ذلك، ومن ثَمَّ لم يَعُدْ إلى بلاده مرة أُخرى. وعلى هذا، تكوَّن بمرور الوقت مجتمعٌ غير قليل، أو لنقل "جاليةٌ" مُعتَبرةٌ من أهل التكرور بمدينة القاهرة، وزاد اندماج "التكاررة" بأهل مصر لا سيما بالقاهرة التي آثرها أكثر أهل التكرور أكثر من غيرها من مدن مصر. ومن ثم كان منطقيًّا أن يترك هؤلاء "التكاررة" تراثًا إفريقيًّا إسلاميًّا واضحًا بمدينة القاهرة، وقد كانت ولا تزال لهؤلاء "التكاررة" جوانبُ من تُراثهم الإفريقي الأصيل شاهدةً عليهم، وعلى تأثيرهم في المجتمع المصري عبر الحقب الإسلامية المتعاقبة، وحتى يومنا هذا، ومن ثَمَّ وُجِدَ بالقاهرة حيّ يحمل اسم "التكرور"، ومساجد، وكذا أضرحة لثُلَّةٍ من أعلام التكاررة الذين استقروا بالقاهرة.. الخ.

وقد تركز كثيرون من "التكرور" في الغالب في أحد أحياء القاهرة أكثر من غيره، وقد صار بذلك الحي "جاليةٌ تكرورية" غير قليلة، ولهذا صار هذا الحي بالقاهرة يُعرف بـ"حي التكاررة"، أو "حي التكرور"، وهو ذاتُ الحي الذي أضحى بعدئذ يُعرف باسم: "بولاق التكرور"، أو "بولاق الدكرور"، أو "الدكروري"، وحتى يومنا هذا. ويذكر "المقريزي" (ت: 845هـ) هذا الحي باسم "بولاق التكروري"([31])، وكذلك يذكره غيره من مؤرخي الخطط مثل "علي باشا مبارك" (ت: 1893م) الذي يتحدث عن هذه الحي في خُططه المعروفة بذات الاسم([32]). وللتأكيد على ارتباط هذا الحي بالتكرور، تُشير المصادرُ إلى أن اسم هذا الحي (أي: بولاق التكروري) اشتُهر بذلك نسبةً لأحد الشيوخ من "أصول تكرورية"([33]).

وعن حي "التكاررة" بمدينة القاهرة، يقول المقريزي: "ناحية بولاق التكرور، وهذه الناحية من جملة قرى الجيزة، كانت تُعرف بمنية بولاق، ثم عُرفت ببولاق التكرور.."([34]). وتؤكد روايةُ المقريزي، وغيرها من روايات المصادر الأُخرى، انتساب هذا الحي، وتسميته نسبة لأحد "التكاررة" الذين كانوا قد استقروا بالقاهرة، وتحديدًا المنطقة التي عُرفت بعد ذلك بـ"بولاق التكرور"، وكان هذا الشيخ يُدعى باسم: "أبو محمد يوسُف بن عبدالله التكروري"، وكان في الأصل من سكان "بلاد التكرور"، ثم قدم إلى أرض مصر أيام "الدولة الفاطمية" (358-567هـ)، ثم طاب المُقام للشيخ "يوسف التكروري" بمدينة القاهرة، وآثر أن يُقيم بها بعدئذٍ، وألا يعود لبلاد "التكرور" مرةً أُخرى، ثم حملت هذه المنطقة التي استقر بها، هو وغيره من "التكاررة" اسم بلادهم([35]). وسوف نُفيض في الحديث عن حياة الشيخ التكروري بعد ذلك خلال حديثنا عن علماء التكرور ممن أقاموا بالقاهرة، وكذلك في حديثنا عن مسجده، وضريحه. ومن جانبٍ آخر فقد انخرط الكثيرون من أهل "التكرور" بشتى مجالات الحياة في مصر، ويمكن القول بأنهم تمصّروا، وأضحوا مصريين بمرور الزمن رغم أصولهم "التكرورية"([36]).

وكان من أهل "التكرور" من انضم للخدمة في الجيش، ومن أبرز تلك النماذج التكرورية التي تمصرت قلبًا وقالبًا إذا جاز لنا القول، شخص يُدعى باسم: "عنـبر التكـروري"، وكـان يعيـش أيامَ عـددٍ من سـلاطين المماليك، مثل: السلطان "جقمـق" (1438-1453م)، والسلطان "الأشـرف قايتباي" (1468-1498م). وترقـى "عنبر التكروري" حتى صار مقدَّمًا في الجيش([37]).

ويرى الباحثُ أن "عنبر التكروري" كان جيلاً متأخرًا من "التكاررة" الذين استقروا بمصر، أي أن أجداده كانوا قد هاجروا إلى مصر، وعاشوا بها مدةً من الزمن، ثم ولد "عنبر" بعد ذلك بمصر لأسرة تكرورية الأصل، ولا نعلم على أية حال إلى الأجيال التكرورية المهاجرة ينتسب. وعلى أية حال تذكر المصادر أنه انضم للجيش المصري، وخدم به، ومن ثم أظهر براعة في خدمته، ثم ترقى في الدرجات العسكرية العليا([38]). ورغم ذلك الامتزاج بين أهل التكرور والمصريين، إلا أن "التكاررة" احتفظوا في ذات الوقت باسم "التكروري"؛ تأكيدًا على أصولهم الإفريقية. وعن شخصية "عنبر التكروري"، يقـول "ابن إيـاس" (ت: 930هـ): "وفي شـوال، قُـرِّر عنبر التكروري في نيابـة تقـدمة المماليك، ثـم بقـي من بعـد ذلـك مُقـدَّم الممالـيك.."([39]).

 

ثالثًا- قُدوُم عُلماء التكرور إلى القاهرة:

ربطت العديدُ من الوشائج العلمية بين علماء بلاد التكرور والعلماء المصريين، وكان علماءُ "التكرور" يحرصون على التواصل العلمي مع علماء مصر الذين ذاع صيتهم في ربوع العالم الإسلامي إبَّان حقبة "العصر الوسيط". وتتحدث المصادرُ عن عددٍ من علماء التكرور الذين نالوا العلم بمصر([40]). كما أن عددًا منهم كان يحرص على التواصل مع كبار العلماء بمصر، فكان علماءُ التكرور يرسلون بما يَعِنُّ لهم من تساؤلات فقهية وشرعية لعلماء مصر حتى يُفتوهم في تلك الأمور، وذلك لثقة علماء التكرور بالمصريين. ومن المعروف أن السلطان "أسكيا محمد" (899-935هـ) "ملك التكرور" كان قد أراد من الإمام "السيوطي" (ت: 911هـ)، وكان أشهر علماء مصر في ذلك الوقت، أن ينشر علمه في "بلاد التكرور"، لا سيما وأن كتب "السيوطي"، ومصنَّفاته كانت رائجةً في بلاده. وكان علماء التكرور يقومون بتدريس كتبه، ومنهم من قام بعمل شروح لكتب "السيوطي". ومن ثم كان من الطبيعي أن يقوم علماء التكرور الكبار بمراسلة الإمام السيوطي، ومن ذلـك قيام الفقيه التكروري "أحمد بابا التنبكتي" بعمل شرح لـ"ألفية السيوطي"، وسماها باسم "المنح الحميدة في شرح الفريدة"[41].

كما يتحدث المؤرخُ عبدالرحمن السعدي (ت: حوالي سنة 1655م)، صاحب "تاريخ السودان"، عن أحد علماء التكرور واسمه "العاقب بن عبدالله الأنصمني" بأنه أخذ العلم عن الإمام السيوطي[42]. وكان علماء التكرور يبعثون إلى السيوطي بالأسئلة الفقهية وتضم أمورًا شرعية، وكذلك كان بها بعض الفتاوى، كما يسألـونه عما شقَّ عليهم من أمور الدين. وقـد صَنَّف السيوطي في ذلك رسالـة شهيرة، ضمَّنها أجوبتـه على تساؤلات علماء التكرور، ودعاها باسم: "فَتحُ المَطلَب المَبرور، وبـَرد الكَبد المَحرور، في الجوابِ عن الأسئلـةِ الـواردةِ من التَكرور"[43]. وفي موضع آخر من كتاب "السيوطي" عن هذه الرسالة الفقهية التي أرسلها لعلماء التكرور، وقد جعلها باسم: "مطلب الجواب بفصل الخطاب"[44]. وكانت تلك الرسالة ردًّا من "السيوطي" على أسئلة الفقيه التكروري "شمس الدين بن محمد اللمتوني"[45].

ويُفهم من كلام السيوطي لهذا الفقيه (التكروري) أنه فيما يبدو يعرفه معرفةً شخصية، وهو ما يظهر بشكلٍ واضح من صيغة الكلام بين كليهما، وكذا مقدار الودّ الذي يحمله له "السيوطي"، ونعوته، ولعل من ذلك قوله له بصفة الحبيب، والأخ، وكذلـك وصفه له بالصلاح، وكذلك تقدير "السيوطي" لعلم الفقيه التكروري؛ حيث يقول في وصفه: "الشيخ، العالم، الصالح.."[46]. ويرى الباحثُ أن ذلك يُشير فيما يبدو إلى أن العلاقة بين العالمين المصري والتكروري كانت قد زادت ارتباطًا بعد أن زار "السيوطي" بلاد التكرور، وهو ما يذكره "السيوطي" في ترجمته المعروفة التي أوردها في كتابه "حُسن المُحاضرة"([47]). وهو ما يبدو من سياق الحديث في هذه الرسالة الفقهية. وحسب هذه الرسالة، يذكر "السيوطي" أنه كتبها، وبعث بها إلى الفقيه التكروري في شهر شوال، من سنة 898هـ[48]. وفي الغالب كانت تلك الزيارة العلمية فيما يرى الباحثُ بناء على دعوة من السلطان "أسكيا محمد" ملك التكرور لجلال الدين السيوطي، وهو ما شجَّع الفقيه المصري على القيام بهذه الرحلة العلمية. ومما لا ريب فيه أن تلك الزيارة قد زادت من شهرة الإمام "السيوطي"، ورواج كتبه وعلمه في "بلاد التكـرور".

ويبدو أنه كـان لهذه الزيارة العلمية التي قام بها "السيوطي" إلى بلاد "التكرور" صدى كبير بين كبـار علماء مصر، فشجَّعت الكثيرين منهم على الذهاب إلى تلك المملكة الإفريقية النائية؛ خدمةً لـدين الله، ولنشر العلوم الدينية والشرعية بين شعوب هذه البلاد المسلمة. ومن جانب آخر حرص كثيرٌ من علماء التكرور على القدوم لمدينة القاهرة؛ مدينة العلم في ذلك الوقت، وتعجُّ كتب التاريخ التي دوَّنها مُؤرِّخو بلاد التكرور ذاتها بأسماء كبار العلماء في بلادهم الذين أقاموا بالقاهرة، وجاءوا طلبًا للعلم، وبالطبع كان الكثيرُ منهم يستفيد من رحلة الحج، وانتظار خروج "موكب الحج" من القاهرة للتعلم على أيدي علماء مصر[49].

ومن علماء التكرور الذين زاروا القاهرة: الفقيه "أحمد بن عمر أقيت" (ت: 942هـ)، وهو من كبار علماء التكرور، وشغل منصب "قاضي تنبكت" (تمبكتو)، وكذلك "قاضي ولاتن"[50]، وهي من مدن التكرور المعروفة، وينتسبُ هذه الفقيه لـ"أسرة أقيت" العلمية المشهورة، التي أنجبت أشهر فقهاء وعلماء "تنبكت"[51]. وقد حجَّ الفقيه التكروري سنة 890هـ، وأقام بمدينة القاهرة مدة، ولقي بها الإمام "السيوطي"، والإمام "الأزهري" النحوي المعروف، وغيرهما من كبار العلماء بمصر[52].

وعن قدوم هذا الفقيه التكروري لمدينة القاهرة، يقول السعدي: "شرَّق (أي ذهب لبلاد الشرق) في تسعين وثمانمائة، وحج، ولقي الجلال السيوطي، والشيخ خالد الوقاد (الأزهري) إمام النحو، وغيرهما.."[53]. ويقصد المؤرخ "السعدي" هنا أن الفقيه "أحمد أقيت" كان قد أخذ العلم عن الإمامين المعروفين "السيوطي"، و"الأزهري"، وكذلك عن غيرهما من كبار العلماء بمصر في أيامه. وكان من أبرز علماء التكرور الذين جاءوا لمدينة القاهرة أيضًا: الفقيه "محمود بن عمر بن محمد أقيت (التنبكتي) (ت: 955هـ)، وهو أخو الفقيه "أحمد بن عمر أقيت" الأصغر[54]. ويُوصف بأنه كان من كبار "قُضاة تنبكت"، وأحد أعلام الفقه في بلاد التكرور[55]. كما أنه لعلو مكانته في بلاد التكرور حمل لقب: أبي البركات، وكذلك "شيخ الإسلام"[56]. وقد زار الفقيه "محمود بن عمر أقيت" القاهرة سنة 915هـ خلال رحلته للحج، والتقى بكبار علماء مصر آنذاك[57]. وكان قدوم هذا الفقيه التكروري للقاهرة في العام 15 من حكم أسكيا محمد (899-935هـ) سلطان صنغي، والمشهور بلقب "سلطان التكرور"[58].

ومن جانبٍ آخر، كان أمرًا منطقيًّا أن يستقر عددٌ من علماء التكرور بمدينة القاهرة استقرارًا تامًّا بمرور الزمن، وأن يبقوا بها حتى موتهم، وقد نال عددٌ منهم صيتًا كبيرًا. وكان من أبرزهم الشيخ "يوسف التكروري" الذي ذكرنا نُتفًا من شأنه آنفًا، وهو الذي حمل "حي التكرور" بالقاهرة اسمه حتى يومنا، وكان هذا الشيخ قد ذاعت شهرته، ونال مكانةً دينيةً واسعة بين عوام الناس على الأخص. وكان الشيخ "التكروري" ممن عُرف بين الناس بالتقوى، والصلاح، وهو ما يبدو جليًّا في ثنايا الروايات القليلة التي تحدثت عنه. ويعتبر تقي الدين المقريزي، و"علي باشا مبارك" من أكثر المؤرخين الذين تحدثوا عن ترجمته([59]).

وكان الشيخُ "يوسف التكروري" يعيشُ بمدينة القاهرة في عصر "الدولة الفاطمية" (358-567هـ)، وتحديدًا خلال فترة حكم "العزيز بالله" (نزار) (365-386هـ)، وهو ابن المعز لدين الله الفاطمي (365– 386هـ)([60]). وقد عُرف هذا الشيخ "التكروري" بأنه من أصحاب الكرامات، ومما ورد في المصادر التاريخية عن كراماته، يقول المقريزي: "وكان يُعتقد فيه (أي الشيخ) الخيرُ، وجُربت بركةُ دعائه، وحُكيت عنه كراماتٌ كثيرة.."([61]). كما تروي المصادر التاريخية بعضًا من كرامات الشيخ التكروري، وبعض تلك الكرامات ارتبط أيضًا بـ"التكاررة" (أو السودانيين) الذين كانوا يعيشون في "حي التكرور" في ذلك الوقت([62]).

ومما حُكِيَ عن الشيخ التكروري، وكراماته بالقاهرة: أن امرأةً خرجت من مدينة مصر (أي: القاهرة) تريدُ البحر (لعله يقصد: نهر النيل)، فأخذ السودانُ (وهم أهل التكرور) ابنها، وساروا به في مركب، وفتحوا القُلع فجرت السفينة، عندها تعلقت المرأة بالشيخ "يوسف التكروري"، فخرج لها الشيخُ من مكانه حتى وقف على شاطئ نهر النيل، ثم دعا الله سبحانه وتعالى، فسكنت الريحُ، ووقفت السفينةُ عن السير، فنادى الشيخ من في المركب يطلب منهم الصبي، فدفعوه إليه، ثم ناول الشيخُ الطفل لأمه([63]).

سكن جماعة أخرى من علماء التكرور في بعض المدن والأقاليم المصرية الأخرى، ولم تكن إقامتهم حكرًا على مدينة القاهرة، وبولاق التكروري وحدهما؛ حيث تتحدث بعض المصادر التاريخية عن شيوخ آخرين من "التكاررة" الذين عاشوا بمصر، ولعل منهم الشيخ: "فاتح بن عثمان التكروري"، وهو الذي يلقب بـ"الأسمر"، وذلك إشارة إلى أنه كان من أصل تكروري، وأنه جاء من مدينة مراكش بالمغرب الأقصى، ثم استقر به الحال في "دمياطبعد ذلك([64]).

 

رابعا- مدرسة التكرور بالقاهرة:

يُرجَّح أن جماعات من شعب "التكرور" استقرت بمدينة القاهرة منذ وقتٍ بعيد، وقبل حوالي قرنين من زمان السلطان "منسا موسى" (712-738هـ) ذاته، حيث كانت تعيشُ جاليةٌ تكرورية كبيرة في القاهرة منذ أيام "الدولة الفاطمية" (358-567هـ)، ومرورًا بحقبة "العصر الأيـوبي" (567-648هـ). وفي الغالب كان أكثرهم من طلاب العلم التكاررة، ولهذا أقام أهل التكرور، وكانوا أكثرهم فيما يقال من حكام بلاد الكانم (في تشاد)([65])، مدرسة لهم خاصة في منتصف القرن 7هـ/13م([66]). وكانت هذه "المدرسة التكرورية" تُعرف باسم: "مدرسة ابن رشيق"، وقد كانت الغاية العلمية من إقامتها، بجانب جَمْع طلاب بلاد "التكرور" معًا، وكذلك تدريس الفقه المالكي لهم، وهو المذهب الذي انتشر في مصر، وكذلك في بلاد التكرور، وقد طُلِبَ من واحد من كبار العلماء بمصر في ذلـك الوقت، واسمه "ابن رشيق" حتى يقوم بالتدريس في مدرسة التكرور للطلاب التكاررة الموجودين بمدينة القاهرة([67]).

وعن تأسيس هذه المدرسة، يقول المقريزي: "هذه المدرسة للمالكية، وهي بخط "حمام الريش" من مدينة القاهرة، كان الكانم من طوائف التكرور لما وصلوا إلى مصر في سنة بضع وأربعين وستمائة قاصدين الحج دفعوا للقاضي "علم الدين ابن رشيق" مالاً بناها به، ودرّس بها، فعُرفت به، وصار لها في "بلاد التكرور" سُمعة عظيمة، وكانوا يبعثون إليها في غالب السنين المال.." ([68]).

ويعتقد الباحثُ أن العالم "ابن رشيق" كان يدعو كبار علماء مصر ليقوموا بالتدريس في "مدرسة التكرور"، فلم يكن التدريس فيها مقتصرًا عليه وحده.

 

خامسًا- رواق التَّكرور بالأزهر الشريف:

عَرفت مدينةُ القاهرة نظام "الحلقات الدراسية"، أو ما يعرف بـ"الأروقة" الدراسية فيما بعد، منذ حوالي القرن الأول الهجري، ومع الفتح العربي لأرض مصر سنة 21ه/641م([69]). وقد تعددت الجالياتُ القادمة من الممالك الإفريقية جنوب الصحراء عامة إلى القاهـرة، ولا سيما أولئك القادمين من "بلاد التكرور" بصفةٍ خاصةٍ.

وقد لعب "الأزهرُ الشريف" دورًا مهمًّا في جذب الكثيرين منهم؛ لما له من مكانة علمية ودينية كبرى بين المسلمين. وأخذت الأعدادُ الوافدة من الممالك الإفريقية تزداد لطلب العلم في الأزهر الشريف، ومن ثم صارت هناك حاجةٌ ملحةٌ لأن يكون لكل جالية إفريقية كانت قد استقرت بالقاهرة "رواقٌ" بالأزهر الشريف، وقد ارتبط هذا الرواق بأهل تلك الجالية من العلماء، وطلبة العلم. وكلمة "الرواق" يُقصد بها لغةً أنها: "المسافة بين كل عمودين من أعمدة المسجد"، وجمعها: "الأروقة"([70]). وعلى أية حال، فإنه من المعلوم أن أول درس ألقي بـ"الأزهر الشريف يرجع إلى سنة 365هـ، ثم أقيمت دار لسكن الفقهاء والعلماء بجوار الجامع الأزهر، وقد وضعت لهم الرواتب لنفقاتهم([71]).

أما عن البداية الأولى لـ"أروقة الأزهر" فتقول الدكتورة "سعاد ماهر": "وكان الأزهرُ منذ بدأت الدراسة فيه مفتوح الباب لكل مسلم، يَقصده الطلابُ من مشارق الأرض ومغاربها.. يتلقون العلم، وتُجْرَى عليهم الأرزاق، وتُقيم كلُ جماعة منهم في مكانٍ خاص بها، وهذا هو نظام الأروقة الشهير الذي بدأ بالأزهر منذ العصر الفاطمي.."([72][73]).

ويرى البعض أن البدايات الأولى لـ"نظام الأروقة" ترجع إلى أيام "العصر الفاطمي" (358-567هـ)، وتحديدًا إبَّان حُكم الخليفة الفاطمي "الحافظ لدين الله"([74]). بينما يؤكد آخرون أن نظام "الأروقة" تم العمل به بشكلٍ واضحٍ أيام "دولة المماليك" (648-923هـ)، وقد استمر نظام الأروقة أيام الخلافة العثمانية، وكذلك خلال حكم أسرة محمد علي (1805-1952م)، وإلى سنة 1954م؛ حيث صدر قرارٌ بإقامة "مدينة البعوث الإسلامية" ليُقيم فيها طلاب الأزهر الأفارقة وغيرهم؛ بدلاً من نظام الأروقة التقليدي، لا سيما مع كثرة وفود الطلاب الأجانب إلى مصر، سواء الأفارقة منهم، أو غيرهم من الجنسيات الأخرى([75]).

 وكانت "جالية التكـرور" من أهم الجاليات الإفريقية التي كان لها رواق خاصّ بها بالأزهـر الشريف، وكان يُعرف بـ"رواق التكـرور"، أو "رواق التكارنة" (أو التكاررة). وكان "شيخ الرواق" يجب أن يكون من "بلاد التكرور"، وكان "رواق التكرور" يوجد في طرف المقصورة الجديدة فوق الإيوان، شمال الداخل من "باب الصعايدة". و"رواق التكرور" كان عبارة عن مبنى أرضي مقام على محل فسيح، وكان يقع أعلاه جزء من "رواق الشوام".

وقد بلغت "الجراية" المقدمة إلى طلاب التكرور المقيمين داخل هذا الرواق، في بعض الأحيان" 33 رغيفًا، وكانت هذه الجراية تُقدَّم لهم كل يومين، وكان طلبة التكرور يتقاضون راتبًا لمساعدتهم على المعيشة وطلب العلم غُرة كل شهر هجري([76]).

ويُشير البعضُ إلى أن "رواق التكاررة" كان مخصصًا لكلّ من: طلاب التكرور، وكذلك الطلاب القادمين من إقليم "واداي"، وكذلك طلاب دارفور، وسنار([77]).

ولعل في ذلك خلطًا واضحًا؛ لأن طلاب سنار كان لهم رواق خاصّ بهم، وكان يحمل اسم "رواق سنار"، وكذلك كان طلاب واداي، وهو من أقاليم تشاد، ومن ثم فمن الراجح أنهم كانوا ضمن "رواق الكانم والبرنو". وعلى أية حال فقد استفاد أهل التكرور إبَّان قدومهم مع موكب الحج القادم بالإقامة بالقاهرة انتظارًا لخـروج موكب الحج، ولهذا كانوا يذهبون لأروقة الأزهر للدراسة، وطلب العلم على أيدي علمائه الكبار ذوي المكانة والشهرة الواسعة.

ومن جانب آخر تذكر بعض المصادر أن عدد طلاب الأروقة بالأزهر الشريف في القرن التاسع الهجري كان قد بلغ حوالي 750 طالبًا من الأفارقة، والمغاربة، وكذلك طلاب العجم، والمصريين([78]).

 

 

الخاتمة:

وبعد هذه الرحلة التاريخية عبر "التراث التكروري" الإسلامي بمدينة القاهرة، يمكن أن نخلُص إلى بعض الاستنتاجات المُهمة:

- أكدت هذه الدراسةُ أن "الأزهر الشريف"، و"موكب الحج" كانت من أهم الأسباب التي حفَّزت العديد من سكان "بلاد التكرور" على القدوم إلى مدينة القاهرة خلال العصور الإسلامية؛ إما لمرافقة "موكب الحج" المصري، وأداء مناسك الحج، وإما بهدف الدراسة والتعلم في الجامع الأزهر على أيدي كبار علماء مصر، ومن المعروف أن الأزهر الشريف كان قد نال مكانةً دينيةً وعلميةً مُهمة في ربوع العالم الإسلامي.

- أدى استقرار العديد من الجاليات التكرورية بمدينة القاهرة إلى بروز أنماطٍ عدة من تراث شعب التكرور بالقاهرة، وهو تراثٌ مُتنوّع ما بين شخصيات من "أصول تكرورية" استقرت بالقاهرة، ومن ثَم فإنهم تمصروا، أي صاروا مصريين قلبًا وقالبًا، ومع ذلك ظلوا يحتفظون بنسبهم إلى بلاد التكرور. وهكذا كان للتكاررة تراثٌ مُهمّ بمدينة القاهرة، يشهد على العلاقات التي جمعت بين المصريين وشعب التكرور خلال حقبة العصر الإسلامي، ولا يزال أثر تراث التكرور قائمًا حتى هذا اليوم.

أشارت الدراسةُ إلى ارتباط "حي التكرور" الحالي بالقاهرة بالجاليات التكرورية التي أقامت بهذه المدينة، وكان من أبرز هؤلاء "التكاررة" الشيخ يوسف التكروري الذي عاش إبان العصر الفاطمي (358-567هـ).

- وكان من أبرز نماذج "التراث التكروري" بمدينة القاهرة: وجود مدرسة تكرورية كانت مخصَّصة للطلاب التكاررة القادمين في طلب العلم بمدينة القاهرة، وقد عرفت أيضًا باسم "مدرسة ابن رشيق"، وهي ترجع لأيام "العصر الأيوبي" (567-648هـ).

- وكان "رواق التكرور" أحد الأروقة المشهورة بـ"الأزهر الشريف"، وهو من أبرز جوانب "التراث التكروري" بمدينة القاهرة. وكان يسكن بهذا "الرواق" طُلاب التكرور، وكان الحكام بمصر يوفّرون الدعم المادي والمعنوي للطلاب التكاررة، ولغيرهم بالطبع من الطلاب الأفارقة بالقاهرة حتى ينالوا العلم الديني، والشرعي، ومن ثم كانوا يعودون لبلادهم لينشروا ذلك العلم الذي تعلموه بمصر.

 

د. إسماعيل حامد إسماعيل علي

 باحث في تاريخ إفريقيا الوسيط - مصر

 

المصدر: موقع قراءات إفريقية