استحالة استقلال القرار الوطني دون استقلال الإرادة الوطنية :في الترابط بين الحرية و التحرر .

اثنين, 09/14/2020 - 13:54

الدكتور عبد الحميد الجلاصي - ما يحدث الان في منطقتنا من اعلان بعض الأنظمة التفصي مما يعتبرونه عبئا تمثله  القضية الفلسطينية ومن هرولة وتسابق نحو التطبيع لا يمثل الا نصف مفاجأة .
فمنذ قرابة القرن تشتغل النخب الفكرية على بلورة مشروع نهضوي في المنطقة يتم تعديله دوريا انطلاقا من الاستفادة من إنجازات و إخفاقات السياسة و انطلاقا من مراقبة التجارب المقارنة و اهم اركان هذا المشروع هي الديموقراطية و التنمية و العدالة الاجتماعية و البعد الوحدوي و استقلال القرار الوطني و الانخراط الفاعل في مسار تحرير فلسطين .
حصلت نقاشات كثيرة في علاقة هذه الأركان ببعضها و في ترتيبها و في المدخل الذي بمقتضاه يفسح المجال لبقية الأركان و حصلت صدامات كانت احيانا دموية ومكلفة و لم تختف اثارها بعد و حصلت نقلات من ثورية حالمة الى ثورية واقعية وحصل ادراك عميق لمعنى موازين القوى و عامل الزمن  و الوعي و التثقيف و الراي العام في التاثير فيه .
كان البعد الوحدوي نفيا بل ترذيلا للحقيقة القطرية تجسده يوتوبيا دولة واحدة سميت خلافة متجاوزة للقوميات ام دولة قومية من الخليج الثائر الى المحيط الهادر ،و كان البعد الديموقراطي تتبناه الالسن و تنفيه الممارسة ان لم تسخر منه و كان النضال الفلسطيني محل تجاذب بين معسكرات المقاومة و التسليم .
اليوم يتقدم الوعي بأولوية الديموقراطية و بالتكامل بين القطري و العربي وفقا لصيغ مرنة و ذكية وسياسية عبر مسارات التشبيك الاقتصادي و المصلحي ،كما يتقدم الوعي ان الدفاع عن قضية فلسطين ليس فقط دفاعا عن الفلسطينيين و حقهم الإنساني في ان تكون لهم دولتهم و يطردون المحتل عن ارضهم ،و ليس واجبا تمليه الاخلاق بل هو مدخل أساسي كي يكون للعرب وجودهم السياسي و الحضاري .
وهنا يتصارع في منطقتنا مشروعان .فمشروع الإرادة الشعبية (الحرية والديموقراطية )هو مشروع التحرر و استقلال القرارالوطني و اعتبار البعد الوحدوي وفقا لصيغ مرنة تتكامل مع الحقيقة القطرية وفِي مقابله مشروع الاستبداد الذي يحتمي من الإرادة الشعبية بالخارج من اجل استدامة السلطة و بيع كل شيء في سبيل مظلة تحميه بما في ذلك المظلة الامريكية -الصهيونية .
منذ سنوات والاستبداد الداخلي متحالف مع الخارج الاستعماري من اجل تخريب اي مسعى لإرساء منظومة امن إقليمي مندمجة تضم دول الشرق الأوسط العربية و تركيا و ايران ،بل لتخريب مظلة أمنية تحافظ على مجلس التعاون الخليجي.
الزمرة الحاكمة في الإمارات تخشى انكشاف ظهرها خليجيا مع الضغوط المسلطة على محمد بن سلمان و التي قد تضعف حظوظه في الوصول الى السلطة و محمد بن سلمان يسرع بالتوقي من خلال الاعلان عن اجراءات تحديثية مضحكة كان يفترض ان تتخذ تلقائيا منذ عقود لا مقابل تاجيل الاستجابة لضغوط التطبيع .
و يتجدد الدرس الا عاصم من الخارج سوى الداخل ومن بيع السيادة سوى ترسيخ الديموقراطية و ان الحرية و التحرر توأمان حقيقيان و ان فلسطين عن ان معركة التحرر السياسي و الحضاري .

حين يكون الروائي عرافا :
لا اخفي اني كثيرا ما أتأمل السياسة انطلاقا من التاريخ وخاصة ابن خلدون ،و في أحايين كثيرة انطلاقا من الرواية .
هذه الايام استحضر المبدع المرحوم عبد الرحمان منيف في خماسية (مدن الملح :التيه ،الأخدود ،تقاسيم الليل والنهار ،المنبت ،بادية الظلمات )في نشوء نمط من دولنا مع اكتشاف النفط و في المدخل الأمني العسكري في هذه النشاة و في صراعات القبلي وتدخل الخارج الامريكي البريطاني فيها و ايضا الحديث عن مآلاتها .كان منيف يتحدث عن محمد بن زايد و محمد بن سلمان حين حديثه عن الحاضنة الخارجية لبعض الأمراء و عن المشاريع الخارجية لبعض الأمراء مثل مشاريع التحديث المسقطة .
بالطبع ليس في نيتنا الدفاع عن المحافظة الاجتماعية المتسترة بالدِّين و المتحالفة تاريخيا مع الاستبداد .فقط نرى ان التحديث له روافعه الداخلية و هذه الروافع موجودة وفاعلة و مقموعة بتواطيء الخارج الاستعماري مع الداخل المتسلط. 
يتحدث منيف عن الذاكرة ،فاذا هي "لعنة الانسان المشتهاة و لعبته الخطرة ،اذ بمقدار ما تتيح به سفرا دائما نحو الحرية فانها تصبح سجنه .وفي هذا السفر الدائم يعيد تشكيل العالم  الرغبات و الاوهام ."
و نرى ان خيال منيف يعيننا على فهم حاضرنا ومستقبلنا ايضا .