​مَسالك التحوّل من الإسلام المُخيف إلى الإسلام الخائف

خميس, 01/02/2020 - 15:57

كان بروز تنظيمات إسلاميّة مسلَّحة في سورية والعراق وليبيا واليمن خلال العقد الماضي، بغضّ النّظر عن الجهة أو الجهات التي سلَّحتها وموَّلتها، قد أطلق مَوجةً من الخوف، بل الذعر عند المُواطنين المُسلمين وغير المُسلمين من مُمارسات مُستهجَنة وتمتاز بالتوحّش البدائيّ غير المعروف في التاريخ العربيّ المُعاصر، ما أدّى إلى نموّ ظاهرة الإسلاموفوبيا، بخاصّة عند غير المُسلمين العرب أو الذين يعيشون في العالَم العربيّ.

لقد ضجَّت من ثمّة وسائل الإعلام بالحديث عن ظاهرة الإسلاموفوبيا في أوروبا الغربيّة والولايات المتّحدة الأميركيّة. وبَرزت هذه الظاهرة لأسبابٍ أيديولوجيّة وسياسيّة في آن واحد. فالثقافة الغربيّة السائدة، منذ القرون الوسطى، مُعادية للإسلام وللمُسلمين، وتَعتبر أنًّ عليها التخلُّص من هذَين الضيفَين الثقيلَين اللّذَين كانا يُنافسانها في آسيا وأفريقيا وبعض أوروبا. وقد ازدادت حدّة هذه الأيديولوجيّة بعدما أُضيف العامل السياسي في عصر الاستعمار منذ القرن الثامن عشر حتّى القرن العشرين، إذ كان من المحتّم اصطدام الحركات الوطنيّة المُنادية بالاستقلال بالآلة العسكريّة والسياسيّة الأوروبيّة التي جعلت نفسها وصيّةً على بلاد آسيا وأفريقيا التي صودف أنّ أغلبيّتها أو جزءاً وازناً من سكّانها يتبع الدّين الإسلامي. فكان العداء للإسلام والخوف منه جزءاً من العداء لحركات التحرّر وثقافة السكّان المُستَعمرَين وأديانهم.

إلّا أنَّ الإسلاموفوبيا الأوروبيّة المُعاصِرة شهدت انعطافة مهمّة خلال العقدَين الماضيَين، إذ أدّى نزوح الآلاف من المُسلمين وغير المُسلمين من مناطق الصراع المسلَّح في الشرق العربي وأفريقيا إلى زيادة المُهاجرين إلى أوروبا وبصورة فاقت التوقّعات. وقد أصبحت نسبة المُسلمين القاطنين في بعض دول أوروبا الغربيّة تتراوح بين 10 - 15 في المائة، وهي نسبة عالية (وخصوصاً أنّهم يتركّزون في مناطق بعَينها) أدَّت إلى ردودِ فعلٍ شعبويّة مُعادية حادّة في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وهولندا، ولاسيّما أنَّ أغلبيّة المُهاجرين الجُدد أتوا من بيئات شعبيّة فقيرة وغير متعلّمة ورافضة التأقلم مع الثقافة الأوروبيّة، وكذلك مرفوض تأقلُمها من طرف الأوروبيّين أنفسهم الذين اعتبروا وجودها بمثابة غزوٍ ديموغرافيّ غير مقبول. فلا القادمون يريدون الاندماج الثقافي في مجتمعات أوروبا، بل يصرّون على تأكيد هويّتهم الذاتيّة بفجاجة في بعض الأحيان، ولا مُجتمعات أوروبا تعطيهم فُرص عمل تحفّزهم على الاندماج الاقتصادي والاجتماعي. ولعلّ هذه الصورة كانت مُختلفة عمّا حصل مع المجموعات المُهاجرة من شرق أوروبا بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي وكتلته في 1991/1989؛ فعلى الرّغم من الصعوبات السوسيولوجيّة بين الطرفَين، فإنّ التقارُب الثقافي والديني، وكذلك امتلاك عمّال شرق أوروبا مهارات صناعيّة متنوّعة، جعلَ من المُمكن استيعاب هؤلاء بسرعة نسبيّة.

التخويف بالإسلام

على كلّ الأحوال، جَمعت أوساطٌ أوروبيّة سياسيّة وعنصريّة بين الضغط الديموغرافي للقادمين المُسلمين الجُدد وبين عقيدتهم الدينيّة وثقافتهم لتُعلنَ أنّ هناك علاقة بين ما هو سوسيولوجي وما هو ديني، ونَشرت ثقافة "الإسلاموفوبيا"، أي الخوف من كلّ ما هو مُسلم أو إسلامي في أوروبا.

أمّا في الولايات المتّحدة الأميركيّة، فإنّ الديموغرافيا لم تُسهم في إطلاق مَوجة الإسلاموفوبيا، لأنّ نسبة المُسلمين في هذه الولايات الشاسعة مُنخفضة، لكنّها نشأت لأسبابٍ سياسيّة/عسكريّة بعد أن ضربَ تنظيمُ "القاعدة" نيويورك وواشنطن في 9/11 من العام 2001 ردّاً على السياسة الأميركيّة في أفغانستان على الرّغم من التحالف السابق في الثمانينيّات بين الطرفَين ضدّ الاتّحاد السوفييتي. وكان لهذا الحدث وقْع المفاجأة الصادمة عند الأميركي العاديّ الذي لم يَشهد قبلاً مَن يُدمِّر بعض مَبانيه ويُسدِّد ضربةً عسكريّة إلى رموز تفوّقه الاقتصادي والعسكري. وبهذا المقياس، كان لهذه الضربة وقْعٌ سيكولوجي يُشابه أو يفوق وقْع الهجوم الياباني على بيرل هاربر في 7 كانون الأوّل (ديسمبر) 1941 خلال الحرب العالميّة الثانية.

ولم تشهد كندا وأستراليا وغيرهما من البلدان القليلة السكّان نسبيّاً والمُرحِّبة بالهجرة والمُهاجرين، من الطبقة الوسطى والوسطى العليا، ظواهر الإسلاموفوبيا العالية النبرة عموماً ربّما بسبب غياب العاملَين السياسي والديموغرافي. إلّا أنّ الأمر لم يخلُ من بعض الاستثناءات، لأنّ الثقافة الأوروبيّة المُعادية للإسلام والمُسلمين موجودة بين السكّان ذوي الأصول الأوروبيّة في ما كان يُعتبر المُستعمرات البريطانيّة البيضاء. والمثال على ذلك حادثة مَقتل أكثر من خمسين من المُصلّين المُسلمين في مسجدَين أثناء الصلاة في تشرش تاون في نيوزيلنده منتصف آذار (مارس) 2019.

الخوف مع نهاية "العدوّ المُشترَك"

إلّا أنًّ تطوّراً مهمّاً لم يكُن في الحسبان ظهر أيضاً في السنوات الماضية، ألا وهو انطلاق ظاهرة الخوف من الإسلام ومُحاربته خارج العالَم الغربي، وفي أماكن بعيدة عنه، أي في آسيا تحديداً. وقد بدأ الأمر مع صراع روسيا الدامي مع مُسلمي الشيشان وتدمير مَوطنهم ثمّ أخيراً مع تهجير مُسلمي الروهينجا من منيمار (بورما) في 2015، وبأعدادٍ بلغت نحو مليون شخص، وتبع ذلك قيام الحكومة الصينيّة بوضع الأقليّة المُسلمة الموجودة غربيّ البلاد المعروفة بالايغور في مُعسكرات مُغلقة بحجّة إعادة تثقيفهم وتعليمهم مبادىْ الدولة الصينيّة القوميّة ونزْع الإسلام وطقوسه عن مُعتقداتهم. ثمّ جاءت الضربة الأخيرة بقيام الحكومة الهنديّة ذات التوجُّه القومي الهندوسي المتطرّف بإلغاء الحُكم الذاتي لولاية جامو- كشمير ذات الأغلبيّة الإسلاميّة ووضْعها تحت الحُكم المركزي من دون الاعتراف بخصوصيّتها وذاتيّتها التي حصلت عليها منذ أكثر من سبعين سنة.

وتستأهل الظاهرة الآسيويّة الأخيرة وقفةً خاصّة. فبعد الحرب العالَميّة الأولى، وقبل نحو قرنٍ كامل من الزمن، أطلقَ الكاتبُ الأميركيّ المعروف حينها، لوثرب ستودارد، نظريّته المُشابِهة لنظريّة صاموئيل هانتيغتون، التي برزت في تسعينيّات القرن وتتحدّث عن "صراع الحضارات". إلّا أنّ ستودارد ركَّز، بدلاً عن ذلك، على "صراع الأعراق" واعتبرَ أنّ العرق الأبيض القائم على استعمار العالَم غير الغربي والمتفوِّق على بقيّة الأعراق من سوداء (في أفريقيا) وسمراء (عرب ومسلمون) وصفراء (صينيّون ويابانيّون) يُجابِه خطراً كبيراً بعد الحرب العالَميّة الأولى. وكان ذلك ناتجاً برأيه عن أنّ العرق الأبيض يمثِّل "عدوّاً مُشترَكاً" لدى الأعراق التي ترزح تحت حُكم ذلك الاستعمار الأبيض أو "الحضارة" البيضاء حيث كان يفضّل استخدام هذا التعبير. بالتالي، فإنّ التحالف بين عرقَين أو ثلاثة من تلك الأعراق المتميّزة بكثرة السكّان وزيادة المواليد، يَضع العرق الأبيض المُستعمِر في مَوقفٍ دفاعيّ يؤدّي في النهاية إلى هزيمته ونهاية الاستعمار العالَمي الذي يفيد البشريّة جميعها بحسب رأي ستودارد.

وبالفعل، ومن دون المُوافقة على نظريّة الكاتب الأميركي حول الأعراق، فإنّ إسهام الأقليّات المُسلمة في حركات التحرّر الوطني في آسيا أَكسبهم صداقة الأغلبيّة سواء أكانت دينيّة أم عرقيّة أم أيديولوجيّة. من هنا نفهم أنّ المثقّف الوطني الصيني المشهور، صن- يات- صن عبَّر عن شكره لمُسلمي الصين لمساعدتهم إخوانهم في الوطن في حرب تحرير البلاد. كذلك كان الزعيم الهندي المُسالِم المهاتما غاندي، صاحب نظريّة اللّاعنف، على صلة وثيقة بكلّ عناصر مُجتمع شبه الجزيرة الهنديّة، وكان يهتمّ اهتماماً خاصّاً بالمُسلمين ويحرص على مساندتهم واعتبار أنَّ الأخوّة الهندوسيّة-الإسلاميّة ستأتي للهند –كلّ الهند- بالاستقلال عن التاج البريطاني. وقد رفضَ غاندي بشدّة إقامة دولتَين واحدة للأكثريّة الهندوسيّة (الهند) وأخرى للأقليّة المُسلمة (باكستان)، إلّا أنّ محمّد علي جناح، (مُحام ومؤسِّس دولة باكستان) أصرَّ على أنّ المُسلمين مُضطهَدون في شبه القارّة الهنديّة وأعلنَ، في 14 آب (أغسطس) 1947 استقلال إقليم باكستان وإقامة دولة غربي البلاد. مع هذا الإعلان سادت الاضطّرابات في الهند، وبدأت حربٌ طائفيّة راح ضحيّتها الآلاف، واعتبرَ غاندي هذه الحرب كارثة وطنيّة، ونادى بوقف الحرب التي نشبت بين الهند وباكستان على إقليم كشمير الحدودي. اعترف غاندي باضطهاد الأقليّة المُسلمة في الهند، وأخذَ يدعو إلى إعادة الوحدة الوطنيّة بين الهندوس والمُسلمين طالباً من الأكثريّة الهندوسيّة احترام حقوق الأقليّة المُسلمة. ولم ترضَ الجماعات الهندوسيّة المُتشدّدة بمُقترح غاندي، واعتبرت دعوته خيانة عظمى، وبالفعل اختار شخصٌ هندوسيّ يُدعى ناثورم جوتسى يوم 30 كانون الثاني (يناير) 1948 وأَطلق ثلاث رصاصات قاتلة استقرَّت في صدر المهاتما غاندي. إلّا أنّ العلاقات بين الهندوس والمُسلمين شهدت هدوءاً نسبيّاً بعد ذلك بقيادة رفاق غاندي من نهرو وابنته أنديرا ثمّ أحفاده في حزب "المؤتمر" إلى أن قويت النزعة الهندوسيّة المُتشدّدة ثانية، وقامت بنزْع الاستقلال الذاتي عن ولاية كشمير الهنديّة ذات الأغلبيّة المُسلمة الشهر الماضي.

وهكذا يكون غياب العدوّ المُشترَك بعد نهاية عصر الاستعمار أحد العناصر الرئيسة في خلْخلة العلاقة بين المُسلمين وغيرهم من أبناء أوطانهم في آسيا. وأصبح اضطهادهم مُمكناً اليوم باستخدام الحجّة نفسها التي يَستخدمها الغرب عندما يُطلِق عليهم صفة التطرّف والتعصّب من دون البحث في الأسباب التي تجعل المُسلم يشعر أنّه تحت الحصار إنْ في الغرب أو في الشرق.

محمود حداد/ كاتب وأستاذ تاريخ جامعي من لبنان