التعاون بين الأديان حاجة إنسانية/قراءة في فكر الشيخ ابن بيه

جمعة, 12/06/2019 - 20:18

د.محمد علي إسلم/الطالب أعبيدي
من المعلوم أن الإنسانية اليوم تعاني في مختلف مجالات حياتها التي تحولت إلى حقل ألغام بفعل تصرفات شاذة لأفراد تمردوا على كل القيم الإنسانية الكبرى كالحق في الحياة وكرامة الإنسان والحرية والمساواة والعدل...!
فأين الحكماء والعلماء والمرجعيات الدينية في العالم؟ وماذا يمكن أن يقدموه من رؤى ومقاربات في سبيل معالجة الأخلال الفكرية والأخذ على أيدي السفهاء والمتطرفين، لأن "التكلفة البشرية " تجعل التفرج على هذا الواقع خيانة عظمى لمبادئ الأديان وواجب الزمان.
وفي هذا المقال المختصر سأقدم قراءة أولية في المقاربة النموذجية لمعالي الشيخ عبد الله بن بيه لتعاون الأديان وتصحيح المفاهيم وهي مقاربة أرى أنها حرية جدا بأن يحتذي بها قادة الأديان في مختلف أنحاء العالم.
وتتجلى المقاربة الفكرية لمعالي الشيخ  في قضية التعاون بين الأديان من خلال دوائر ثلاثة يركز معاليه في الدائرة الأولى منها والتي يمكن أن نسميها "بالدائرة الإسلامية" على تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة  حيث بذل الشيخ  ما في وسعه لإطفاء الحريق المشتعل وبث روح السكينة، من خلال الحفر المعرفي في النصوص الدينية تأصيلا وتنزيلا  فقدم بذلك معالجة أصيلة وعلاجا ناجعا، وأثّث الساحة الفكرية في العالم الإسلامي في السنوات الأخيرة بمفاهيم صحيحة ورؤية جديدة ورواية تجديدية أعطت لكلي الواقع مكانته وجعلت الحياة تدب من جديد في جسم فقه السلم ونصوصه وأدب الاختلاف وفي هذه الدائرة يتم التأسيس لقبول الآخر  وبذل السلام له بغض النظر عن فكره و دينه ومعتقده.
فواجب رجال الدين في هذه الدائرة أن يعلَموا أتباعهم أدب الاختلاف لتتسع صدورهم و أن يبرزوا الاختلاف كسنة كونية لامحيص عنها وأنه لايستلزم صراعا بالضررورة بل قد يكون في بعض محاله ثراء لاغنى عنه.
قال تعالى:{ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء } وليس في هذا الاختلاف تعارضا { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } وإنما هو ثراء اقتضته حكمة الله وإرادته { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين}.
وفي الدائرة الثانية وهي دائرة "العائلة الإبراهيمية" تتسع المقاربة الفكرية لشيخ السلام مؤسسة على الدائرة الأولى ومتجاوزة لها إلى الدعوة للتعاون بين الأديان الإبراهيمية والتأكيد على المشتركات والبحث عن "أولي بقية من العالم، وأولي عقول وتمييز لتكوين حلف فضول، يدعو إلى السلام، و المحبة والوئام ".
و يؤكد معالي الشيخ في هذه الدائرة على القيم المشتركة بين أديان العائلة الإبراهيمية فهم يتشاركون في الرواية الأصيلة للقيم والفضيلة وأصول الأخلاق التي تؤسس للسلام والتعايش بين مختلف الشعوب .ونحن المسلمين نعتبر أنفسنا امتدادا للديانات السابقة،  فقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننظر إلى الأنبياء جميعا كعناوين للحقيقة، قال تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيئون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون).   
ثم تتسع دائرة اهتمام الشيخ أكثر في شكلها الثالث وطورها الأكبر"دائرة الإنسانية" لتشمل الإنسان من حيث هو إنسان أين ما كان وكيف ما كان؟، وذلك من خلال وعي الشيخ العميق "بدرجة التشابك بين مصائر الشعوب وأوضاعها في سياق العولمة المعاصرة التي أضحت ترجّح المقاربات التشاركية، وتفرض القطع مع المنظور الصدامي الذي يُركِّز على الخصوصيات ويلغي دوائر المشترك بين بني البشر."
وهكذا نجد معالي الشيخ وتأسيسا على مقاربته التي تفرض على كل ديانة وملة أن تبدأ بمواجهة التطرف الداخلي يزيح العراقيل التي تقف في سبيل تعاون مثمر للأديان عن طريق قبوله للاختلاف كسنة كونية وعلى التعايش والتعاون كضروة إنسانية؛ ثم نجد الشيخ يفند الشبه التي تثيرها بعض الجماعات المتطرفة في وجه التعاون بين الأديان.
 فمعلوم أن بعض الجماعات المتطرفة ترفع إشكال مفهوم الولاء والبراء، كعنوان لرفض الآخر وهو من المفاهيم التكفيرية الرائجة التي تجعل مجرد التعامل والتعاون مع غير المسلمين حرام شرعا بل مخرج من الملة .
وقد بين الشيخ فساد هذا الفهم من خلال كتبه ومحاضراته وعن طريق المؤتمرات الدولية التي يؤطرها.
فالذين يعتمدون على هذا المفهوم -حسب عبارة الشيخ – "لا يكلفون أنفسهم البحث في مضمونه ولا قيوده ولا بنوده، ولا يجمعون بين النصوص، بل لا يذكرون النصوص الداعية إلى البر بالآخر، ولا تقسيم العلماء لمراتب الولاء كالفخر الرازي في تفسيره، وابن العربي المالكي في أحكامه، فأرهقوا الأمة وحرفوا هذا المفهوم الذي كان عاملاً للسلم؛ لأنه كان ولاء للدين وبالتالي فهو للوطن ليصبح طارداً وإقصائياً."
فالمنهج العلمي الرصين يقتضي الجمع بين النصوص، وإرجاع كل نص إلى سياقه الخاص، فضابط التعامل بين المسلمين والآخر هو سلوك هذا الآخر وتعامله والنصوص الواردة في ذلك قطعية الدلالة والورود  كآية البر والاقساط لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ   وكقوله تعالى( وقولوا للناس حسناً) وأحاديث:  (صلي أمك) و(وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) و (خالق الناس بخلق حسن)وحديث حلف الفضول ووثيقة المدينة والسماح للنصارى بالصلاة في المسجد إلى غير ذلك من الأخبار والآثار. 
ويرى الشيخ أن الآخر في رؤية الإسلام قد أجمل التعبير عنه الإمام عليٌّ رضي الله عنه بقوله: “الناس صنفان: أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”، فالآخر هو الأخُ الذي يشترك معك في المعتقد أو يجتمع معك في الإنسانية.
وينبه الشيخ في الدائرة الثالثة على ضرورة استحضار التصور الإسلامي الكلي للآخر والتذكير بوحدة النوع والمساواة في الكرامة الإنسانية، والبحث عن تنمية المشتركات ونبذ معايير التفاضل إلا بالخير والتقوى، وهو ما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلّم (يأيها الناس إن ربّكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى).
ويؤكد معالي الشيخ دائما على المشترك الإنساني والقيم الكونية التي لا تختلف فيها العقول، ولا تتأثر بتغير الزمان، أو محددات المكان، أو نوازع الإنسان، لأن لها منابت وأصولا تحفظها من عوادي الدهر وتعسفات البشر.
فالبشرية الآن هي في سفينة واحدة على وشك الجنوح، فلا بد لأهل القيم أن يأخذوا على أيدي الذين يريدون خرق السفينة ولابد للأديان أن تتحالف وتتعاون وأن تنظر إلى بعضها نظرة احترام وتكامل وانسجام، فلا تنكر ملة أو تتَنَكّر لإسهام ملة أخرى في الحضارات وتشييد العمارة الأخلاقية للبشرية.
وخلاصة القول أن اهتمام معالي الشيخ عبد الله بن بيه بالتحديات التي تواجه المجتمعات المسلمة لم يمنعه أبدا من النظر في الأفق الإنساني الأرحب، ليقدم مقارباته الفكرية في مختلف القضايا الإنسانية فظل خطاب التعايش الديني والإنساني حاضرا في كل مشاريعه الفكرية مع مايقتضيه هذا الظرف أو ذاك من خصوصية أو معالجة.
وقد تبين لنا من خلال هذه المعالجة العاجلة أن التعاون بين الأديان بالإضافة لكونه مبدأ دينيا هو حاجة إنسانية ملحة وعلى الجميع أن يدرك أن الإيمان المطلق بالدين لاينافي الاعتراف بالاختلاف وأن اعترافنا كمسلمين بالأديان الأخرى هو جزء من عقيدتنا الإسلامية التي لانعتنقها لنرضي أحدا أو نخطب وده وإنما لأنها عقيدة.
ونبينا صلى الله عليه وسلم يرى نفسه مكملا لماجاء به الأنبياء قبله من قيم ومثل فيقول (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ويؤكد أنه لبنة متممة لهذا البناء العظيم، (إنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ).
وهذا البناء هو الذي قال عنه نيتشه في لحظة وعي شاردة، في كتاب "ما وراء الخير والشر": (إن الذين أوجدوا القيم في البشرية قلة في التاريخ ومنهم موسى وعيسى ومحمد).
وهذا البناء هو مايجب أن نحافظ عليه اليوم انطلاقا من إيماننا به ونظرا  لحاجتنا الإنسانية إلى تماسكه.