محمد الغزالي.. نموذج لفهم الدعوة ونقد الذات!

خميس, 11/29/2018 - 09:19

لم يكن الغزالي - رحمه الله- مجرد مدرس يلقى محاضرات عمود بالجامع لأزهر ولا شيخ مركزي مرهون علمه ونشاطه بمنصات الخطاب الديني الرسمية، فالعلم في منظوره واسع مجاله ومفتوح على كل الجهات مداه، يجمع في كلماته بين روحانية التصوف والزهد وواقعية الإصلاح والتقويم السلوكي للأمم، فالناظر في مختلف مؤلفاته يجد تناغما موفقا في الربط بين سلامة المعتقد الديني ورصانة النموذج الفكري واستقامة النتاج السلوكي للأفراد والمجتمعات وأنظمة الحكم كذلك.

في مقدمة كتابه الماتع (إسلامنا دين الكمال) يقول رحمه الله: "وجدت أن خصائص الإسلام مرتبطة ببعضها ارتباطاً وثيقاً، فلا يمكن للإسلام أن يكون عالمي إلا إذا كان رباني، ولا يمكن أن يكون وسطي إلا إذا كان عالمي رباني واقعي وهكذا، فكل خصيصة من خصائص الإسلام حلقة ضمن سلسلة حلقات متصلة معاً، وكانت أهم خصائصه هي الربانية كما بينته، ومن هنا ينبع كمال الإسلام".

ثم يردف مقدمته للكتاب ببيان لوصف الإسلام كدينٍ ربانيٍ مصدره رب العالمين جل جلاله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ( القرآن والسنة )، وسطيٍ يدعو أتباعه للعدل في القوة والقوة في العدل ، عالميٍ إنسانيٍ يوافق الفطرة الإنسانية ويحميها ويعالج قضايا الناس جميعاٍ وينتشر بالحجة والبرهان ويقبل وجود الغير ولا يقمعه، واقعيٍ يتعامل مع طبيعة التكوين الإنساني بعبقرية تضع كل شيء في موضعه فلا تبهته تساؤلات العقل واحتياجاته ولا تضيع في شرائعه حقوق الأبدان ولا يُنسى في تعاليمه غذاء الروح، يقرُّ اختلاف الناس وتنوعهم ويشرِّعُ ما مقتضاه يحقق مصالح الناس في الدنيا والأخرة ويعترف بالضرورات ويقرر لها معاملةً خاصةً تتناول كل حال بقدرها وما يناسبها دون غلوٍ أو تفريطٍ، شموليٍ متنوعٍ فيه العقيدة ربانيةٌ لله والعبادة على هدي النبي صلى الله عليه وسلم والمعاملات والأخلاق ونظام الحكم والعسكر وشئون الرعية وخطط النمو وتحقيق العدالة واحترام التنوع وبناء الحضارة وتقدير العلم والإبداع.
 

 

  •  
  •  

لقد كان الغزالي موفور الهمة ذا بالٍ في دفع شبهات الملاحدة من جهةٍ ونقد الدعوة الإسلامية من حيث طبيعة الخطاب الديني وأسلوب التقويم المجتمعي لدى الدعاة من جهة

فلم يُحرم الشيخ - رحمه الله – في هذا الصدد توفيق الرحمن الملازم لكتاباته، إذ تدفقت عباراته سهلةًً في رتابةٍ وحسن تخلصٍ يبني قناعة القارئ بهدوءٍ كما لو كان حواراً بينه وبين المؤلف في ظلال السطور وعلى بساط الصفحات، وقد أوضح بعضا من صفات الإسلام إن لم تكن أغلبها على نحوٍ يبرز كثيراً من معالم تصوره الفكري الذي ينبثق من نصوص القرآن والسنة الصحيحة، فيكون بريئاُ مما اتهم به من خصومٍ فكرٍ لم يتجاوزوا تداعيات الخلاف الضيقة إلى راحة الوقوف على مناط الحق ودلالة الصواب.

ولقد كان موفور الهمة ذا بالٍ في دفع شبهات الملاحدة من جهةٍ ونقد الدعوة الإسلامية من حيث طبيعة الخطاب الديني وأسلوب التقويم المجتمعي لدى الدعاة من جهة، فكان نموذجاُ يقتدى به على صعيدٍ واسعٍ في حراسة العقيدة ونقد الذات وتوجيه السلوك الأمميِ نحو الرشاد دون اكتراثٍ لمواطن الضعف أن تكون من جانبه أو جانب الدعاة، فلا بأس أن يكون الخطاب بدايةُ للنخبة والصفوف الأمامية ليستقيم المنهج عند حامليه أولاُ. وقد أورد في كتابه هموم داعية موضحاً أسباب النصر مجملةً في عبارةٍ قصيرةٍ وافيةٍ أننا " خلال تاريخنا الطويل لم نكسب معاركنا الكبرى بكثرة العدد ورجحان السلاح، بل كسبناها بالاستناد إلى الله وبذل كل ما لدينا من طاقة".

 

صدقا وحقا يقول، فما نراه مؤخرا يعد أوثق بيان على حاجة المفكرين وأرباب التوجيه في مجتمعاتنا إلى استقلال الوجهة وخلوصها لله في تقرير الحق وإنكار المنكر أيا كان مصدره، وعونهم في ذلك سند الله وحوله قوته، ولا يتم حسن عملهم إلا ببذل الوسع واستجداء النتيجة على أحسن ما يكون بدايةً من اعتدال الفكرة واستقامة المنطق ومروراً بحسن اختيار الأسلوب حكمةً وموعظةً حسنةً ونهاية بتحمل تبعات الحق قدر الممكن دون هوانٍ أو ضيمٍ يضر بامتثال الناس بما دعوهم إليه أو يُضعِف من ثبات المدعوين على الحق إذا رأوا من دعاتهم خوراً أو تراجعاً دون مبررٍ مقبولٍ.

وفى موطنٍ آخرَ من نفس الكتاب يقول مؤكداً على أهمية نقد الذات بموضوعيةٍ وتجردٍ ثم انتقاء الأسلوب بعناية ٍ وتحديد المسار الذي يتم من خلاله إنجاز أهداف الإسلام وتصحيح أوضاع المسلمين مرحلياً إذ يقول: "فلندرس بدقة وبصيرة أسرار ما أصابنا.. فإن العافية لا تتيسر بدواء مرتجل، والنصر لا يجيء باقتراح عشوائي". ولا يتوقف عن بيان أسباب التخلف والهوان والضعف الذي أصاب المسلمين، فأقعدها عن سباق الأمم وأعجزها عن استمرار الريادة بعد أن كانت في طليعة الأمم نموذجا لم يتكرر، فيقول في كتابه الطريق من هنا: "ولست ألوم أحدا استهان بنا أو ساء ظنه بديننا ما دمنا المسئولين الأوائل عن هذا البلاء ٬ إن القطيع السائب لابد أن تفترسه الذئاب. وقد نهض كثيرون لمعالجة هذا الانحدار ٬ وإزاحة العوائق التي تمنع التجاوب بين الأمة ودينها أو إزالة الأسباب التي جعلت أمة كانت طليعة العالم ألف عام تتراجع هائمة على وجهها في مؤخرة القافلة البشرية".

ولأن الغزالي قد سبق الكثير من علماء عصره، واصطف جنباً إلى جنبٍ مع الكبار علماً وفكراً وعمقاً في نظرته لواقعية الإسلام وإنسانيته وشموله كما وصفه في كتابه الإسلام دين الكمال، ها هو الآن يعيد الكرة بوصف أكثر تفصيلا، بإسقاطِ عمليِ يحكيه الواقع أكثر مما ترويه الحروف ذاكرا مثال رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه تأملات في الدين والحياة إذ يقول:

"فإن تعميم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتخليدها لم يقصد به إلا المحافظة على ذلك كله لخيرر الإنسان وحده. فإن الإسلام أوضح الحقائق الأساسية في علاقة الإنسان بالله وبالناس وبالكون، وربطها بهدَى الفطرة وضياء العقل، فإن كانت ثمة قيود مفروضة أو صور مرسومة حددها الإسلام، فلكيلا تجمح الفطرة ويستحمق العقل ويخرج الإنسان على نفسه".

ولا يغيب عن خاطر قارئ أو باحث في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم جمال مؤلف الغزالي الفريد في فقه السيرة النبوية إذ يتعرض فيه للدروس والعظات أكثر من سرد الأحداث ككل حقبة يرويها المؤرخون ليدرجوا فترة في جدول الزمان أو ليميزوا بين أحوال الناس قبلها وبعدها. أما الغزالي رحمه الله فقد عمد إلى عرض الأحداث من وجهة نظر الفقيه الباحث عن فكرة يستهدى بها أنماط الناس المختلفة بعد أن ردت إليهم جاهلية محاها الإسلام قبل ويستطيع المسلمون أن يعاودوا فقط إن أرادوا.