روافد وتفاعل الطرق الصوفية بين المغرب العربي وإفريقيا الغربية

ثلاثاء, 08/28/2018 - 12:30

يحيى سيدي أحمد عبدي : أكثر من خمسمئة سنة مرَّت على دخول التصوف إلى إفريقيا جنوب الصحراء، وبنفس المناسبة تكون قد مرت على وجود الإسلام في أقاليم واسعة من نفس المنطقة أكثر من خمسة قرون أيضًا، وكان مشايخ التصوف وراء انتشار الإسلام في جانب لا يستهان به من هذه الربوع وفي ترسيخه بين السكان. وتؤكد الإحصائيات الأخيرة التي أعدتها بعض الطرق الصوفية، مثل التجانية والقادرية والبرهانية والسمانية وصول مُريدي الصوفية في القارة السمراء إلى مئة مليون مُريد صوفي؛ مما يؤكد صدارة الصوفية في هذه القارة للمشهد السياسي والمشهد الديني أيضًا(1).

1. المسارات القديمة

بِغَضِّ النظر عن الاختلافات في أصول الصوفية ومصادرها، فإن التأصيل لها يكاد يستبعد أي دور مغاربي أو إفريقي في مراحل التصوف الأولى؛ فلا نقع على ذكْر لذلك إلا في مراحل لاحقة جدًّا مع القرنين السادس والسابع الهجريين، وذلك لدى الذين يميلون إلى ربط التصوف بالتشيع، والتصوف بالحلول والاتحاد. وفي ذلك ما فيه من تجاهل الصلات القديمة بين الصوفية والأشعرية (2) التي دخلت إلى البلاد المغاربية في النصف الأول من القرن الرابع الهجري على يد القلانسي (3).

وكان محرز بن خلف (340- 413ه)، المعروف اليوم بسلطان تونس، "يلبس الصوف ويلزمه". وكان إذا ذكر الصوفي عنده يضحك ويقول: الصوفي من لبس الصوف على الصفا ورمى الدنيا خلف القفا (4).

ولقد عُرف المغاربيون بمعتقدات عتيقة تدور حول تقديس ما بعد الموت وإعلاء الأضرحة، ونجد في كتابات الأسقف أوغستين (القديس أغسطينوس) (5) وأبوليوس المداوري (أفولاي نمداوروش) (6) وترتيليين (7)، والنقوش على الأضرحة هنا وهنالك في الفضاء المغاربي، وكذا الفسيفساء والصور الجدارية والأثاث الجنائزي، ما يؤكد شيوعَ تقديس ما بعد الموت عند الأوائل؛ مما يمكِّننا من القول: إن بعض طقوس الأضرحة والمزارات السائدة، إلى يومنا، تعتبر امتدادًا لعادات كانت سائدة قبل الإسلام (8).

مهما يكن من أمر، فإن التصوف في البلاد المغاربية كان في مبدأ انتشاره مرتبطًا بعلم الكلام وليس مقصودًا في نفسه؛ لأن أصحابه الأوائل كانوا في محنة وجِلَاد شديدين مع الشيعة الفاطميين. وظل ذلك كذلك لغاية القرن السادس الهجري أو قبله بقليل، عندما بدأت تنتشر كتب الغزالي الذي وجد فيه الموحدون مرجعية وصاروا له أنصارًا ودعاة؛ وذلك لأن ابن تومرت كان قد تتلمذ على يد الغزالي (9).

وهكذا، تميز التصوف المغاربي في مراحله الأولى بالتصوف العلمي، يقول الشيخ مبارك الميلي: "فجاءت الدولة المؤمنية ونشرت المعارف ونصرت الفلسفة؛ فظهر من الصوفية رجال طار صيتهم في الآفاق"(10).

ولعل من أبرز هؤلاء: أبا مدين شعيب الأندلسي (11) الذي دشن مرحلة الطرقية في البلاد المغاربية باستجلابه الطريقة القادرية؛ وعنه أخذها عبد السلام بن سليمان المعروف بابن مشيش المتوفى سنة 625هـ الموافق 1221م.

ولم ينتشر ما اصطُلِح على تسميته بالتصوف العملي أو الطرقي إلا لاحقًا؛ حيث استفحل في ظل الوجود العثماني في البلاد المغاربية منذ نهاية القرن التاسع الهجري إلى غاية الثالث عشر الهجري (12). وتحولت الصوفية من نتاج علمي إلى نتاج سلوكي؛ حيث أخذت الطرق الصوفية في التعدد والتكاثر، حتى بلغت في الجزائر لوحدها 32 طريقة موزعة إلى 934 زاوية (13)

أما في منطقة السودان الغربي، ورغم دخول الإسلام، مبكرًا، وتَرَكُّز مقاليد الحكم في أيدي المسلمين؛ إلا أن القطيعة مع التقاليد العتيقة لم تحدث، أيضًا، وظل الإسلام بلاطيًّا محصورًا في دائرة السلاطين أو تجاريًّا مرتبطًا بالتجار وفضاءات تنقلهم (14): الأول بحكم أن الملك وأكثر حاشيته وأعوانه مسلمون، والثاني بالنظر إلى العلاقات التجارية الواسعة لتلك المنطقة مع شمالي إفريقيا. ونفس الأمر كان ينطبق، في الأراضي الموريتانية، على مملكة غانة القديمة (15). ويمكننا الحديث أيضًا عن تصوف بلاطي في السودان الغربي، في بدايات انتشاره (16).

وكانت الطريقة القادرية هي الأولى انتشارًا، وأول من نشرها في بلاد السودان الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني ثم سيدي أحمد البكاء الكنتي [الجد الجامع لقبيلة كنتة] بالقرن الخامس عشر الميلادي (17). أما مبدأ انتشار الطريقة التجانية، في غربي إفريقيا عامة، فيعود إلى الشيخ محمد الحافظ بن المختار بن الحبيب العلوي الشنقيطي دفين انفني جنوبي غربي موريتانيا (18).

2. السياق الجيوسياسي والجغرافي 

المجال المغاربي عمومًا، من موريتانيا إلى ليبيا، مجال تشارك واختلاط للحضارات والثقافات والأجناس، وإن كان للانتماء الإفريقي نوع من الأولوية بحكم منطق الجغرافيا والتاريخ (19). ويُعتبر تصوف الجُنَيد البغدادي واحدًا من بين القواسم والثوابت المشتركة للدول المغاربية ودول غربي إفريقيا، إضافة إلى العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي.

ويُفترض في الدول المغاربية، وخاصة منها تلك التي كانت منطلقًا لأكبر طريقتين صوفيتين في المنطقتين، أن تكون حجر ارتكاز، على صعيدهما، تقوم بإدارة "صناعة الاستقرار" في العمق الإفريقي، دون الانشغال بالقضايا الأمنية على حساب المقاربة الفكرية، كما هي الحال بشأن" المقاربة الاقتصادية والتنموية".

وفيما تحتضن المنطقة المغاربية إقليم الصحراء المتنازَع عليه بين المغرب وجبهة البوليساريو، تحتضن منطقة غربي إفريقيا جانبًا كبيرًا من منطقة الساحل، يشكِّل اليوم أهمية بالغة لمستقبل الأمن في المنطقة. ومن شأن تجاوز التحديات الأمنية خلق فرص لتعزيز استراتيجيات القوة الناعمة في المنطقة.

وهناك وعي متزايد بأهمية الأمن الديني من خلال شعار "التصوف أمان من التطرف". إلا أنه يظل محدودًا متداولًا في أروقة الملتقيات والندوات والمؤتمرات وفي الأوساط الأكاديمية، ولم يتم حتى الآن استثماره في مقاربات أمنية من طرف الدول التي تعاني من تحديات التشدد الديني.

ورغم أن المنطقتين فُصلتا عن بعضهما جيوسياسيًّا، وانشغلت كل دولة بخُويصة نفسها، بحيث تخلت تلك التي يُفترض فيها أن تكون رائدة عن امتداداتها مُكرَهةً، إلا أن خطر التطرف كان بمنزلة الصدمة التي جعلت من التصوف البديل الذي لا غنى عنه لكبح جماح التطرف. وتغذي التطرفَ أزماتٌ متعددة ومتشعبة، مثل النزاعات الترابية والإثنية، والجريمة المنظمة العابرة للحدود بكل أنواعها، مثل: المخدرات، والهجرة السرية، والجريمة الإلكترونية، وغسل الأموال، والتهريب، ويضاف إلى كل ذلك الإرهاب ثم فشل الدولة وضعفها (20).

وفي حين تجعل المملكة المغربية من الدبلوماسية "الرُّوحية" ثاني أدواتها بعد الاقتصاد في مغازلة منطقة غربي إفريقيا، نجد في ديباجة الدستور الجزائري أن "الجزائر جزء لا يتجزأ من المغرب العربي الكبير وأرض عربية وبلاد متوسطية وإفريقية"(21).

والجزائر مهد القادرية في المنطقتين، ومسقط رأس مؤسس التجانية؛ لا تزال تعمل على إزالة العقبات التي تقف في وجه توظيف التصوف في سياستها الخارجية، وخاصة في غربي إفريقيا، حيث يبرز التعاطي مع هذه المنطقة جزائريًّا في علاقات مع أقطاب إفريقية كبرى كنيجيريا التي أبرمت الجزائر معهـا ومع جنوب إفريقيا 37 اتفاقيـة تعاون خلال فترة 1999-2009(22). فيما قامت الجزائر بجهود مكثفة على المستوى الداخلي: رعاية الزوايا والطرق الصوفية، وعلى الصعيد الإقليمي تتعلق بأمن منطقة الساحل (23).

وفي موريتانيا، لا تزال الطرق الصوفية تؤدي دبلوماسيتها الشعبية، ويرى باحثون أنها تلاقي نجاحًا في تلك المهام نظرًا "لحيازتها عاملين أساسيين، هما: رسالية الدور، وثانيًا: خلق الأداة التنظيمية العابرة للقبائل والمناطق؛ وهذا إنجاز مهم في مجتمع انقسامي لم يعرف الدولة طيلة قرون طويلة"(24). مع الإشارة إلى نجاح التجانية في الربط بين موريتانيا والسنغال، فيما لم تتمكن على الصعيد المحلي خاصة من احتواء الانفصام القائم بين التجانية الفوتية والتجانية الحافظية (25).

هذا، فيما تستخدم المملكة المغربية تأثيرها الكبير في الطرق الصوفية، وبخاصة الطريقة التجانية التي تؤوي ضريح مؤسسها، الشيخ أحمد التيجاني، المدفون بمدينة فاس، والطريقة القادرية (26)، في تقوية الروابط بين المغرب وبلدان إفريقيا (27). كما هي الحال في السنغال، بحيث يمكننا الحديث عن محور صوفي هو محور الرباط/داكار، في ظل التنسيق المتجذر الذي يتجاوز الصعيد السياسي إلى مجالات أخرى أبرزها التصوف. وفي السنغال، حيث تتحكم الصوفية في كل كبيرة وصغيرة بالمجتمع، يُعتبر الإسلام صوفيًّا بامتياز، رغم كونه بلدًا علمانيًّا تحكمه نخب فرانكفونية.

ويجري كل ذلك، في غياب، أو في ظل تغييب الدور الليبي الذي كان يستبعد العامل الصوفي في تعاطيه مع دول غربي إفريقيا، رغم أن امتدادات الزاوية السنوسية في الجغبوب حاضرة في المنطقة.

وفي تونس التي تحاول جاهدة الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لدول غربي إفريقيا، وتتمتع الآن بوضعية مراقب في هذه المنظمة الإقليمية، هنالك نداءات من بعض عناصر النخبة التونسية بإحياء التصوف التونسي (28).

3. من القواسم المشتركة

اتسمت العلاقات بين البلاد المغاربية وبلاد السودان الغربي منذ بداياتها الأولى وخاصة على المستوى العقدي والفكري بجاذبية التأثير والتأثر (29). وقد ألقى ذلك بظلاله على الطريقتين: القادرية والتجانية.

- الجهاد ومرجعية الحكم: في نفس الوقت الذي كانت فيه الطريقتان وقودًا للحركة الجهادية في السودان الغربي (30)، شكَّلتا كذلك مرجعية لحل المشاكل المتعلقة بممارسة الحكم (31). فالأفارقة بطبيعتهم يتوجسون خيفة من السلطة، والصوفية راعتْ هذا التقليد الإفريقي العتيق الذي يتجسد في أن الزعيم الحقيقي، في نظر الأفارقة، هو ذلك الذي يتسِم بالمرونة في ممارسته للحكم؛ فلا يتعسف ولا يجور، ولا يكنز الأموال إلا رجاءَ تفريقها على الرعية (32). لقد حطمت الصوفية الحواجز بين الراعي والرعية، وأتاحت تواصلًا مباشرًا بين المُريدين البسطاء وبين الشيخ؛ وذلك من حيث مهدت لهم السبيل ليرتقوا أعلى درجات سُلمها بأثارة من علم أو رصيد من شجاعة (33)؛ "وهكذا شكَّل الإسلام الصوفي ثورة وملاذًا بما بَدَّدَ مخاوفَ أولئك الذين تُخامرهم الريبةُ ويعتريهم الحذر إزاء السلطة"(34).

- مفهوم الإصلاح: ما من شك في أن مفهوم الإصلاح في الفكر الصوفي، عمومًا، هو الأساس الذي تأسس عليه هذا الفكر، وذلك من خلال إصلاح النفس والجسد، وإصلاح الفرد بناء على ذلك، كي تصل إلى إصلاح المجتمع. وبِغضِّ النظر عن مفهومي التخلية والتحلية اللذين تتبناهما الطريقتان، فإن كلتا الطريقتين دخلتا في حروب في غربي إفريقيا كان شعارهما فيها هو نفسه؛ ألا وهو إصلاح المجتمع وتنقيته من شوائب وأدران الوثنية وما إليها. ويعكس لنا السجال الفكري والشعري بين الفقهاء والمتصوفة والمتكلمين في المجال الشنقيطي الموريتاني في القرنين الأخيرين، بل في المجال الصحراوي والسوداني عمومًا، جانبًا كبيرًا من تلك السجالات الميدانية(35).

- فلسفة التسامح والتفاعل: رغم أن الزيارة الممنوعة لدى التجانية هي زيارة التعلق والتبرك والاستمداد؛ حيث ينص عليها شرط الطريقة التجانية الرابع، من أصل 23 شرطًا، المعدودة في شروط الصحبة (36)، فإن سيدي إبراهيم الرياحي التونسي -وهو رابع الآخذين عن سيدي أحمد التجاني (37)- توسَّل بشيخ قادري من البكائية الكنتية (38). هذا، ويُؤثَر عن أقطاب من التجانية أخذهم عن نظرائهم من الطريقة القادرية، كما هي حال الحاج عمر الفوتي التجاني الذي أخذ في طريقه إلى الحج عن قطب البكائية القادرية الشيخ سيدي أحمد البكاي ابن المتوسَّل به في قصيدة الرياحي (39). وأفاد الإمام الشيخ ابن العلامة سيدي محمد بن بادي -وهو حفيد المتوسَّل به- أن الشيخ باي الكنتي القادري حفيد المتوسَّل به أيضًا، وتوفي سنة 1927م، كان قد أوفد أحد تلامذته إلى مدينة النعمة بموريتانيا ليأخذ له الوِرْدَ التجاني من العلامة محمد يحيى بن سليمة اليونسي النعماوي(40). وعن الفوتي التجاني أخذ السلطان محمد بلو القادري في كاتسينا بنيجيريا لدى عودة الأول من الحج (41). ونُقل عن الحاج عمر الفوتي أنه كانت لديه علاقات مع السنوسية وأنه زار الجغبوب حيث كانت الزاوية السنوسية في ليبيا (42). وقد تواتر عن الشيخ موسى كمرا مؤلف كتاب "زهور البساتين في تاريخ السوادين" أنه كان يجمع بين الطريقتين، التجانية والقادرية (43). وللشيخ أحمد البكاي الكنتي القادري (44)، المتوفى 1282هـ، قصيدة يرثي فيها الحاج عمر الفوتي كانت ضمن مكتبة أحمد الكبير المدني بن الحاج عمر تال الفوتي في سيغو(45).

4. أسرار استمرارية التفاعل المتبادل

ما من شك في أن القوافل التجارية كانت مسالكها القديمة تصل غربي إفريقيا بشماليها، وكانت عامل ربط بين المنطقتين (46)، وينقل أبو القاسم سعد الله عن المستشرق الفرنسي دوفيرييه، قوله: "إن للبكائية (القادرية الكنتية) أملاكًا عظيمة في توات... والبكائية هي مفتاح الطريق من الجزائر إلى توات إلى تمبكتو". كما نقل عن الرحالة الألماني هنريتش بارث، قوله: "إنك لا تكاد تعرف هل البكائيون من تمبكتو أو من توات لكثرة أملاكهم وترددهم هنا وهناك"(47).

وكانت أربعة من المسالك الستة للقوافل الصحراوية التي تعبر الصحراء الكبرى تمر بالحواضر الكنتية كالمبروك في أزواد وأقبلي ووالن في جنوبي غربي الجزائر. والمسالك المذكورة، تخرج قوافلها من فاس ومكناس عن طريق الساورة، ومن مدينة الجزائر عن طريق الأغواط، ومن منطقة بسكرة وتقـرت وورقلة، ومن طرابلس وغدامس.

يُضاف إليهما مسلكان آخران، على الأقل، تمثل الحواضر الكنتية، في تكانت بموريتانيا، منطلقًا لهما أو مركزًا للعبور، عن طريق مدينة قصر البركة. كذلك كانت القصور الكنتية، لفترة طويلة، قبلة لأركاب الحجيج ومنطلقًا لهم(48).

هذا، وقد تبنى عدد كبير من سكان حواضر كشنقيط وتجكجة في موريتانيا ومن سكان غربي مالي وجنوبي وجنوبي شرقي موريتانيا التجانية بفرعيها الحافظي والحموي؛ وأغلبها من قبائل ذات امتدادات هنا وهناك. وكذلك تبنت أعداد كبيرة في فوتا تورو على ضفتي نهر السنغال بين موريتانيا والسنغال، وفوتا جالون في غينيا، وخاصة من شعب الفُلان ذي الامتدادات العريضة جغرافيًّا، الطريقةَ التجانية، وانضووا تحت لواء الحاج عمر الفُوتي. وكانوا، خلال أربعين عامًا، أسياد بلاد السودان من تمبكتو إلى المحيط الأطلسي.

يقول م. موري: "إن ثاني مجاري الدعوة الإسلامية في القارة الإفريقية يتمثل في مؤسسات التعليم القادرية في تمبكتو وفي بعض الزوايا التجانية. لقد برهن الإسلام، في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخه، على حيويته الفائقة وعلى أهليته للانتشار. ولْنذكُر حركات شعب الفُلان ونشاط مُريدي الطرق الصوفية وتكاثر الزوايا وجهاد الحاج عمر ورجاله"(49).

ويقول آندريه آرسين مؤلف كتاب غينيا الفرنسية: "إن التقدم الذي أحرزه الإسلام يعود الفضل فيه إلى شعب الفُلان وإلى الحاج عمر. إضافة إلى نفوذ الطرق الصوفية؛ فهي أنجع وسائل النضال. ولقد أقام مشائخ الطريقة التجانية المدارس الثانوية في كانكان وكذلك الابتدائية. وبرز علماء كان لهم الفضل الكبير في نشر الإسلام في إفريقيا الغربية والشمالية"(50).

ثم كان للإرادة السياسية، في ظل الدول الحديثة في المنطقة، دورها في تبني الطرق الصوفية وتوظيفها في دبلوماسيتها، بل وفي خَطْب وُدِّ مواطني الدولة نفسها. وزاد من تفاقم دور الطرق الصوفية، في المنطقتين، فشلُ الدول في تلبية تطلعات وطموحات شعوبها؛ مما زاد من الارتماء في أحضان الطرق والتشبث بها، مثلما بدأ الكثير من شعوب المنطقتين يعض بالنواجذ على القبيلة ويمجِّدها كملاذ ولُحمة في أوقات الضنك والشدة (51).

أما الأخطار الداهمة في المنطقتين: كالتشدد (الأصولية، الإرهاب)، والتخوف من ذوبان الهوية، فكان لها هي الأخرى فعلُها في أن يُنْصب وينتصب التصوف في مواجهة التطرف.

5. مستقبل التفاعل المتبادل 

هنالك محددات مِن قَبيل: الامتدادات القبلية والعرقية -كما مرَّ علينا آنفًا في أسرار استمرار التفاعل- والإرادة السياسية، ونمو الاستثمارات، ومقاومة التطرف، والنزاعات القائمة؛ من شأنها أن تلعب دورًا كبيرًا في مستقبل التفاعل المتبادل بين المنطقتين. أضف إلى ذلك فشل الدولة في كثير من الأحيان. وهي محددات تعمل عملها، منذ أكثر من خمسمئة سنة مرت على دخول التصوف إلى إفريقيا جنوب الصحراء، وإن اختلفت، اليوم، بعض المصطلحات.

وإجمالًا، يمكننا القول: إن مستقبل التفاعل المتبادل بين المنطقتين، في المجال الصوفي أساسًا، يؤثر ويتأثر بجملة متغيرات جيوسياسية واقتصادية؛ نلخصها فيما يلي:

- علاقات الدول المغاربية مع أوروبا وخاصة التبادل التجاري بينها. 

- وضع الصحراء. 

- استمرار فشل اتحاد الدول المغاربية في توطيد العلاقات التجارية بين أعضائه.

- تصاعد الاستثمارات المغاربية في غربي إفريقيا مع ضعف التبادل التجاري بينها.

- المنافسة المتزايدة من شركاء ومستثمرين خارجيين بما في ذلك الصين وتركيا والهند وأوروبا. 

- التنافس بين الجزائر والمغرب على ريادة الطريقة التجانية (52).

لكنه رغم كل هذه الاعتبارات، فإن ذلك لا يعني قصور المحدد الديني أو ضعفه (53)، نظرًا للفوائد السياسية والمنافع الاقتصادية وكذا المصالح الوطنية التي يمكن جنيها من خلال استثمار العوامل الدينية (54)، التي من المتوقع تنامي دورها المهم في تعزيز "الدبلوماسية الشعبية" بين الشعوب المغاربية والشعوب الإفريقية (55).

والسؤال المطروح هو: هل يتحتم مع تنامي الدور الصوفي وإقحامه في السياسة أن يكون ثمة تنظيم مؤسساتي مستقل عن الطرق نفسها، ولكنه جامع لها، يسهِّل ويُديم التفاعل المتبادل بين الدول المغاربية وغربي إفريقيا؟ وهل يمكننا التنبؤ بميلاد رابطة أو جامعة صوفية أي كومنولث صوفي يجمع بين المنطقتين، بحكم التفاعل المتبادل فيما بينهما؟