محمد لغظف ولد أحمد يكتب : ليلة في المقابر

ثلاثاء, 09/12/2017 - 10:43

ليلة في المقابر:
رأيت ولا رأي لي، أنْ أخرج من الشركة لأرفه عن نفسي في المقابر، فـيُذهب عني أنس صمت أهلِها وحشةَ صخب العمل الذي لا ينقطع، وأترحم على أموات غرباء لم أعرفهم، عسى أن يكون فيهم صالحون يـسرُّهم ترحمي عليهم وزيارتيهم، فيشفعوا لي يوم القيامة، وحَريٌّ بي إذا تقربتُ إلى ذوي الجاه في الدنيا بحسن الثناء وتكلف الود لأجل حظوة في الحياة، أن أتقرب إلى ذوي الجاه في البرزخ بالترحم والزيارة لأجل حظوة في الموت وشفاعةٍ في الآخرة، فأدرك هذه إذا فاتتني تلك، ولا يعدم طالب المبتغى إذا اجتهد أن ينال منه شيئا، ومن كان في ذيل المقصرين طلب النجاة بـيسير الأسباب وقريب الوسائل.

كان نصف الليل قد أدبر، فنحن إلى الفجر أقرب وعن الغروب أنأى، والقمر على رؤوسنا كالرقيب، فسِرتُ هنيهة إلى طرف المدافن الغربي وليس بيني والموتى سوى حائطٍ وحياة قد تنتهي قبل أن ينتهي. وقد ابتسمتُ وأنا أرى القبر الذي لا أعرف غير صاحبه في مدافن الحنفية الأولى، قبر شداد رحمه الله. وقد كان فتى حدَثاً قطعت حادثة سير حبلَ حياته ونحن نرتقب وصوله ليشاركنا مباراة كرة، فوددتُ ليلةَ مات لو كانت المباراة صباحا حتى يلعب شداد قبل وفاته. وقد عاتبتني جارة له بعد موته بمدة، فقالت: "أسألك دائما عن شداد فلم تـنـبـئـني بموته"، مع أني لم أكْـذِبْها قط، فما استخبرتني خبرَه إلا قلتُ لها إنه يقيم في الحنفية الأولى، غير أن حال المرأة لا يشفع لي في إخبارها بتقلب حدثان الدهر.

بعدما جاوزتُ ما جاوزت من سلاسل القبور، أخذت أترحم على الموتى وأكوّن صِلاتي في الآخرة، حتى رأيت قوما وقد نزلوا من سيارة يطلبون الحارس، ولا ريب عندي أن الحارس ترك المقبرة منذ مدة، لأنه اطمأن إلى استحالة هروب الأموات. ثم إني اقتربت منهم وساءلتهم لأعرف خبر الميت، فعلمتُ أنهم ليسوا من أهل المدينة، وإلا علموا أن الدفن محظور في المقبرة لازدحامها وتعذر الحفر في صخورها الكلسية. وكان من ظريف أحوالهم أنهم حسبوني حارسا،

والحق أن الإنسان في المقبرة لا ينبغي إلا أن يكون زائرا أو مشيعا أو حارسا أو ميتا، فمن انتفتْ عنه الزيارة والتشييع والموت ثبتت له الحراسة. وليتهم أمهلوني حتى أنفي المهنة عن نفسي أو أثبتها لها، بل إنهم قالوا اركب معنا، يريدون أن أدلهم على المقبرة الجديدة، ووعدوني إذا دللتهم على المقبرة وأعنتهم في الدفن أن يجزلوا لي في العطاء ويرجعوني إلى ما يحسبونه مكان حراستي، وعلل لي أحدهم فقال: "لو أنك مكثت ليلتك هنا في حراستك فاتتك العطية التي وعدناك، والدولة لا تُـلقي بالا إلى عملك وربما مرت الحِقب ولم تسأل عنك"، فقطع الرجل لساني وكان صادقا في كل ما ذهب إليه، سوى أمر الحراسة.

كنا خمسة، اثنين في المقدمة، وكنت في المؤخرة مع كهل فتيان وكان الميت ثالثنا، وبدا أن الذي معي في الخلف أخو الفقيد، وقد كان يبكي ويذكر لي مآثر أخيه ويقول اللهم ارحم فلانَ ابن فلان، فلما سمعت الاسم شككتُ في معرفتي بصاحبه، وزال شكي حين فك أخوه عقدة الكفن وجعل يقبله في جبينه، فإذا هو صاحبي، لم يغيره الموت،

وقد كان عهدي به قبل أسبوعين، مر بي وأنا في الشركة واستقرضني خمسة آلاف أوقية فأقرضته، وعلمتُ فيما بعد أنه اعتل، فجاء إخوة له من "آفطوط" ليعينوه في علته، إلى أن رأيته ليلتئذ فكان الميتَ الذي شيعته. رحمه الله، فقد أخذ مني خمسة آلاف وردها إلي إخوته مضاعفة في هيئة أجرة لأني شاركتهم الحفر والدفن، وما أردت أن أردها عليهم، لأنهم حسبوني حارسا، وليس الزهد في الدنيا من علامات حنكة الحراس.

ثم بعدئذ قفلوا بي راجعين إلى مدافن الحنفية الأولى، فلما بلغنا شارع النخيلة حيث أقيم سألتهم أن ينزلوني، فحلفوا الأيمان المغلظة وأقسموا لا يتركونني حتى يوصلوني إلى المدافن، خشية أن أسير إليها من شارع النخيلة، والحق أنهم إذا حملوني إلى المدافن سرت راجعا إلى النخيلة فوقع ما كانوا يحاذرونه، وكان الأمر على ذلك، فقد أوصلوني إلى ما يحسبونه بغيتي خشية أن يرهقني المسير إليها، فأرهقني المسير راجعا إلى البغية التي أقسموا ألا ينزلونيها، ورجعت وأنا أعلل النفس بقول الأول:
ما أقدر الله أن يدنى على شحط -- من داره الحزن ممن داره صولُ
ألله يطوى بساط الأرض بينهما -- حتى يُـرى الربع منه وهو مأهول 
عشتم طويلا.