أحـاديث العشيات / محمد عبد الله بكاي

أربعاء, 05/04/2022 - 17:59

قالوا غدا العيد ماذا أنت لابِسُه      ***  فــقــلت خــلعــةَ ســاقٍ حُــبَّهـا جُرَعـا

فَـقـرٌ وصَـبـرٌ هـمـا ثـوبـاي تـحـتَهُما  **** قـلبٌ يـرى إِلفَهُ الأعـيـادَ والجُمَعا

الدهـرَ لي مـأتـمٌ إن غِـبتَ يا أملي **** والعـيـدُ ما كنت لي مرأى ومستَمعا

أحرى الملابسِ ما تَلقَى الحبيبَ به *** يوم التزاورِ في الثوب الذي خُلِعا

        

لست أدري كيف أجنح لاستحضار هذه الأبيات مع إطلالة عيد تَتَّسِمُ مظاهر تخليده -عادةً- بالغبطة والسرور، فلماذا النزوع للاكتئاب الحاد والسويداوية المنغصة وبوجه آخر هل لي أن أشير قليلا إلى أنَّ الاستمتاع الطافح بمباهج الحياة سلوكٌ يدعو كذلك للتأمل.

فالتراشق بوابل التهاني والمسرات في "الواتسابات" بذات المناسبة هلوسة جسيمة، خصوصا عندما تكون قوالب التهاني أنماطا مجانية جاهزة ومغالطات صوتية تخلو من أية خصوصية فاعلة وفي نظري أن استشارة مُعَمَّقة لِعَالِمِ الاجتماع المُبَرَّز البروفسور عبد الودود ولد الشيخ فيها ما يرفع اللبس ويشفي الغليل.

وبصرفِ النظر عن هذه التداعيات، أعود من جديد لأبيات أبي بكر الشبلي وما تفوح به من أريج مُناخات الاستئناس والوحشة، والتعلق والانسلاخ، لأستحضر "ليلة الفرح" بِمَعِيَّةِ سيد النُسَّاك، العاقل عن الله، الشيخ محنض بابَ ولد أمَّيْنْ.

شَرَع الشيخ في منازلةٍ كبرى مع النفس ومُهلكاتها في قطيعة مع الخلق واستئناس بالخالق حيث قضى نصيبا غير يسير من حياته بين مهامهِ والفلوات متقيدا بالمحاسبة والمراقبة، متَبَتِّلا بمحراب الفردانية المطلقة.

حتى إذا حنَّت سوانح الشوق والألفة التقى بحجة الله في أرضه العلامة محمد سالم ولد ألما حيث همس له بالمخالطة فأنشدت قرائن أحوال الشيخ محنض باب:

 

عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى   *** وصوَّتَ إنسان فكدتُ أطيرُ

يرى اللهُ إني للأنيسِ لَكارهٌ     *** وتبغضهم لي مقلةٌ وضميرُ

 

فَجَّر الشيخ ثورة سلوكية أثبتت أنه من سلالة عظيمة لا بالمصطلح الإيماتولوجي ولكن بمفهوم الانتماء لدوحة "القوم": مالك بن دينار، إبراهيم النخعي، أبو سفيان الثوري....

الساعون إليه من أرباب المال والجاهِ من شتى صنوف المجتمعات المخملية يلتمسون دعاءه ويترصدون بركاته دون أن يَتَلَمَّسوا جيوبهم أو يدفعوا من حساباتهم السائلة فلسا واحدا.

حتى قال أهل تفرغ زينه لقد زهد الشيخ في الناس وفيما عند الناس.

آمن الشيخ محنض بابَ بأنَّ المربيَّ صاحب رسالة سلوكية لا موظفا ساميا في مؤسسة تصوفية، آثر الاستقامة مع الله والابتعاد عن المقايضات الآثمة والمُمَالآت الكبرى.

فالأسد الهصور ليس سوى تلك الخِراف البريئة كما يرى پول فاليري.

حُبِّبَ إليه من دنيانا اثنتان: العطور الفاخرة وعوالِم المداد والنشر، آبِدِه وحديثه وما سوى ذَيْنِ من جاهٍ ومالٍ وتَرَفٍ هو عند الشيخ من سَقَطِ المتاع الحقير.

 

عليمٌ بأسرار الديانات واللُغى  *** له خطراتٌ تفضح الناس والكُتْبا
 

يشمئز من مجاملات الأغنياء والنافذين والمتحجرين الأفدام.

أغبط شيعته من تَلامذةٍ ومريدين على نعمة الغُدُوِّ والرواح لِمُطالعةِ مُحَيَّا الشيخ البهيِّ.

وإلى أن تُحسَم حالتي النفسية وما يعتريها من سَقَمٍ وصحة، سأبقى أَلْهَجُ عشيَّةَ عيد الفرح مع أبي بكرٍ الشبلي في رحاب سيد النُساك دون منازعٍ: قالوا غدا العيد ماذا أنتَ لابسه.